هل كنا سنعاني ما نعاني منه اليوم لو عشنا أحرارا؟

TT

«الحرية مثل الاستحمام.. إنها ممارسة يومية»

(فلورينس كنيدي)

صديقة عربية عزيزة اقترعت قبل أيام في الانتخابات البريطانية لأول مرة، وأخبرتني عن هذه التجربة بفرح كبير.

كانت تتكلّم بسعادة يشوبها شيء من الاندهاش الطفولي البريء والإعجاب القائم على الاحترام. لقد أعجبت الصديقة بكل التجربة من الألف إلى الياء. من الحملة والبرامج، ومن الحوارات والسجالات الهادفة بلا تخوين أو إدانة، إلى تقبّل النتيجة غير الحاسمة برضا واحترام لإرادة الناخب.. وصولا إلى طريقة بناء الائتلاف الحكومي الجديد المستند بدوره إلى احترام أولويات ناخبي الحزبين طرفي الائتلاف.

للأسف، لا مجال لمقارنة ما شهدته بريطانيا خلال الأيام العشرة الماضية، بالانتخابات في الدول العربية التي تزعم ممارسة الديمقراطية.. بكل ما يسبقها ويداخلها ويليها. وعليه، يقضي التهذيب بألا يتوقف الواحد منا طويلا عند انتخاباتنا، لأن قول الحقيقة عنها سيتناول حتما جلد الذات و«فتح الجروح» من دون طائل. ولكن، في ظل الأوضاع المذلّة والخطيرة التي تعيشها المنطقة لا يعود الصمت خيارا.

فهنا طائفية و«مرجعيّات» غيبية لها الإيحاء وقرار البتّ بشرعية الحكم وسط التشكيك بالنتائج، وعلى وقع التفجيرات والسيارات المفخخة، وهناك عشائرية تستظلّ أكذوبات التعايش لتتعايش مع سلاح ممنوع التكلّم عنه وتتغذّى من التخوين اليومي، وفي مكان ثالث «ثيوقراطية» مسلحة ما عادت ترى حاجة ملحّة للعودة إلى استشارة صندوق الاقتراع، وفي رابع.. حالات استثنائية لا تنتهي وبنية أمر واقع تمنع عمليا أي وجود منظم وفاعل لأي معارضة، وفي خامس.. وسادس.. وعاشر.. أغلبيات مضمونة ومكفولة رسميا، تكون أحيانا مفروضة بقوة الأمن أو قانون الانتخاب المعلّب، وأحيانا أخرى بهالة الزعيم الملهم.. التي هي أكبر من الوطن وأعلى من المؤسسات وأغلى.

وهكذا، بينما يطوي المواطن البريطاني الحرّ - بهدوء - صفحة من حياته السياسية ويفتح أخرى، على الرغم من وجود بعض الشوائب في نظام بريطانيا الانتخابي، يرزح الإنسان العربي تحت ثقل ديمقراطية وهمية ليست أكثر من «ديكور» ضروري لإرضاء المجتمع الدولي والحصول على المعونات الاقتصادية من القوى النافذة فيه.

غير أن الديمقراطية - الديمقراطية الحقة - هي التي تعبّر عن هموم الناس ومطامحهم وأحلامهم. وتقوم على حد أدنى من الوعي، والثقة بالنفس وبالمؤسسات وبممارسة المواطنة وبروح المسؤولية والواجب، وأيضا بوجود هوية وطنية جامعة تتمتع بقبول واسع في أوساط الشعب. أما حيث يتصوّر المواطن أنه «ضيف» على الوطن، أو حيث يقتنع بأن حريته واحترام حقوقه الأساسية «مكرمة» أو «منّة» من قوى لا رادّ لسلطتها، أو حيث يضيع بين مشاريع «الأوطان» العشائرية والطائفية المتعددة... فلا يعود ثمة مجال أصلا لأي «تعاقد» سياسي بين الحاكم والمحكوم. ومن ثم، تنعدم تدريجيا قدرة المواطن على التصدّي لأي خطر يتهدد مصيره. إذ لا يدافع عن الوطن غير الحرّ، ولا تقوم دول إلا على أكتاف شعوب حيّة. أوَلَم يقل عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟» (ووردت: مذ كم تعبّدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟»)

إن كلام بنيامين نتنياهو الفظيع عن القدس خلال الأسبوع الماضي، ما كان من الممكن أن يصدر عن شخص يقيم أي وزن للعرب والمسلمين، ناهيك من مسألة احترامه إدارة أميركية تفقد صدقيتها بسرعة مرعبة.. لأنها تتكلّم وتتعهّد لكنها تبدو - والله أعلم - غافلة عن «السببيّة» التي تتحكّم بأزمات المنطقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. إلا أن الرد الأميركي على كلام نتنياهو، المقصود بوضوح منه نسف موافقة السلطة الفلسطينية على استئناف مفاوضات السلام «بلا شروط مسبقة»، كان أسوأ حتى من فظاعة إنكار نتنياهو حق العرب والمسلمين (من ناحية دينية) بالمدينة المقدّسة. إذ لم تكتف واشنطن بالصمت المطبق على ما قاله رئيس الوزراء الإسرائيلي، بل كافأته عبر إهدائها إسرائيل نظام حماية صاروخيا «لتحصينها» ضد صواريخ «حزب الله» وحماس (!).

أي منطق يمكن أن يبرّر هذه الخطوة ممّن يفترض به أن يكون «راعيا» لمسار تفاوضي يتعرّض في آن لانتقادات مخلصة ومزايدات خطرة؟ وأي رسالة توجّهها واشنطن إلى الفلسطيني الطيب الذي لا يزال مستعدا للظن خيرا بسلام أعرج.. كي لا يسير في ركاب الانتحار الجماعي؟ وأي احترام هذا الذي تكنّه الإدارة الأميركية للقيادات العربية التي ضغطت على السلطة الفلسطينية للقبول بمبدأ التفاوض اللا مشروط إسقاطا لآخر الذرائع الإسرائيلية؟ بل، لأي سلام تؤسّس هذه الإدارة في المنطقة عندما تدفع شعوبها دفعا نحو سباق تسلح محموم ومبرّر جدا من الناحيتين الأخلاقية والاستراتيجية؟

قد يقول قائل، إن الإدارة الأميركية أعجز من أن تتصدّى لإسرائيل في «سنة انتخابات».. وهذا كلام صحيح.

وقد يقول آخر إن «اللوبي الإسرائيلي» في الولايات المتحدة، على الرغم من انقساماته في الفترة الأخيرة وبروز جناح فيه مناوئ علنا لحكومة نتنياهو الحالية المكوّنة من «الليكود» وحلفائه من كتل اليمين التوراتي والعنصري، لا يزال يشعر بالتزام معنوي تجاه إسرائيل، ولا سيما عندما «تتعرّض» لخطر إسلامي ديني يخشاه العلمانيون والليبراليون والتقدميون اليهود في أميركا بمقدار كراهيتهم للأصولية التوراتية اليهودية، بل على الأرجح أكثر. وهذا أيضا كلام صحيح.

وحتما، سيقول ثالث، إن الإدارة الأميركية معذورة إذا سارت بحذر، وسايرت أوسع طيف من «اللوبيات»، بينما تبزغ في أميركا تيارات يمينية متطرفة موغلة في رجعيتها من نوعية جماعة «حفلة الشاي» وغيرها، ترمي الرئيس باراك أوباما تارة بالشيوعية وطورا بأنه مسلم متواطئ مع الأصولية الإسلامية.

نعم، هناك من المؤكد أعذار كثيرة جاهزة عند الإدارة الأميركية لتخاذلها أو ازدواجية خطابها، اللذين يقودان إلى الحصيلة السلبية ذاتها على المستوى الإقليمي، وبالذات، لجهة ما يمسّ مصير الإنسان العربي. إلا أن علينا هنا تذكّر أن سلبية هذه الحصيلة بالنسبة للولايات المتحدة لا تقاس بما تعنيه للعرب. ففي نهاية المطاف، تظل الولايات المتحدة في منأى عن أي خطر مباشر تتعرّض له المنطقة، وهذا على الرغم من وجود عشرات الألوف من عسكرييها المنشورين في الشرق الأوسط وأفريقيا، في حين أن هذا الوضع لا ينطبق على العرب، الذين باتوا مدفوعين شيئا فشيئا نحو ثلاثة سيناريوهات، كل منها من شأنه القضاء على وجودهم القومي، بل قل المستقل:

الأول يتمثّل بحرب ترانسفير أو حرب إبادة تسعى إلى إحداهما إسرائيل متطرفة عنصرية رافضة لأي تسوية سلمية.

والثاني، بهيمنة إيرانية مطلقة على مناطق شاسعة من الشرق الأوسط قد تثير حساسيات وحروبا مذهبية، طبعا، العرب المسلمون في غنى عنها.

والثالث، بجري المتضررين من العدوان الإسرائيلي والهيمنة الإيرانية نحو ملاذ صيغة حديثة لدولة عثمانية تمثلها تركيا في عهدها الانقلابي على الأتاتوركية العلمانية.

كل هذا، وأكثر، النتيجة الحتمية لمسيرة التدجين المُمنهج عبر عقود للإنسان العربي العاجز، وإفهامه قسرا أنه قاصر لا يستحق الحرية ولا يفهم الديمقراطية.