آمنت بالله

TT

من حسن حظي أنني تعرفت قبل أشهر على رجل لا أستطيع أن أصفه إلا بـ«حمامة» من حمام المساجد، النور يكاد يشع من جبينه، إذا مشى يمشي الهوينى وكأنه يخاف أن يدعس سهوا على حشرة، وإن تكلم لا بد وأن تكون لك أذن خفاش لكي تسمعه من خفوت صوته، وإن تبسم تجزم أنه خلق دون أسنان، وإن تكلم فلا تدري وتحتار أي كلماته هي الأجمل، تماما مثلما تحتار أيها أجمل من الآخر هل هو الزمرد أم اللؤلؤ أم الماس أم الياقوت أم الزفير أم الروبي أم الزبرجد.

تبعته خلال تلك الأشهر كظله، ومن كلماته التي سمعتها منه وكادت تحطمني تحطيما لولا رحمة الله، هي قوله: كل إنسان خلق لما هو ميسر له، وهذه بحد ذاتها مصيبة لو طبقت علي، أو قوله: إن هدف الحياة الوحيد هو أن نكون نحن أنفسنا، وهذه أيضا أنيل، إنها مصيبة مركبة! أو قوله: إن العالم يتنحى جانبا ليسمح لأي شخص بالمرور، على (شرط) أن يعرف إلى أين يذهب. وأنا ما ذبحني غير هذا (الشرط)، فمن أول ما ولدتني أمي وغادرت الدنيا الفانية وتركتني وحيدا أتخبط في متاهات الحياة وأنا إلى الآن لا أعرف إلى أين أذهب! لهذا فكثيرا ما ساقتني قدماي إلى ملاهي العبث ولا أقول المجون.

قال وعاد وزاد، وقال لي أشياء كثيرة، غير أن أكثر ما انطبع منها في ذهني هو عندما قال لي: إنني عندما أقف مترددا أو محتارا لاتخاذ قرار بين عدة خيارات، أعمد رأسا إلى «صلاة الاستخارة»، والحمد لله لم يخيب لي الله شيئا اختاره هو سبحانه، لهذا أنا قانع وراض في حياتي تمام الرضا.

الواقع أنني عندما سمعت كلامه ذاك لم أحسده ولكني غبطته، وقرعت نفسي ولمتها لوما قاسيا على أنني لم أفطن ولم أمارس ولا مرة واحدة في حياتي صلاة الاستخارة تلك.

وفي الثلث الأخير من الليل، توضأت وضوءا طاهرا، وفرشت سجادتي، وصليت بخشوع بالغ ركعتين أستخير بين ثلاثة أمور، وبعد أن انتهيت داخلني شعور من الغبطة لم أعهده من قبل، ونمت ليلتها قرير العين على أمل أن «الخيرة فيما اختاره الله»، غير أن الأيام مرت دون أن تؤتي صلاتي أكلها، وبدأ الوسواس الخناس يلعب برأسي.

فعدت لذلك الرجل الصالح أحكي له ما حصل لي، فقال لي: سوف أتكلم معك إذا حكيت لي بكل صراحة عن تلك الأمور الثلاثة التي كنت محتارا بالخيار بينها. فتلعثمت وترددت وجبنت أن أحكيها له، لأن ليس في أي واحدة منها ما يشرف، بل إنها وبكل صراحة أقرب للمفسدة من أي شيء آخر، ويبدو أن ذلك الرجل الخير قد «فقسني» فقال: احمد ربك أنه لم يوجهك لأي منها، لأنه أعلم بمصلحتك منك أنت، وأشفق منك أنت عليك.

عندها كدت أخر صريعا، وقلت له: آمنت بالله.

[email protected]