شجرة كولونيا

TT

ننسى أشكال بعض الزهور والورود، ولا ننسى روائحها. وعندما يتذكر الشعراء والكتاب والتجار والحدادون، الياسمين، يتذكرون عطره. تنقّل الإنسان الأول في الأرض من أجل الطعام، يمر في الحقول فلا تعني له سوى الشبع. تقرأ الآن ذكريات الكتاب والسياسيين عن طفولتهم في الحقول فتجد أنهم يكتبون عن روائح السنابل والهندباء والعشب والأرض بعد المطرة الأولى.

غريب ما تعنيه حاسة الشم في مهرجان الحواس التي تتألف منها حياتنا. كانت نيقوسيا مدينة جرداء، متأففة، غير ودودة. ومثل جميع الجزر وجميع عواصم الجزر، تحذر الغرباء وتخشى أن يطغوا على هدوئها وتتمنى لو ظلوا بعيدا. وكنت أرتاح إلى المشي فيها لأن أرصفتها فارغة وشوارعها الجانبية مثل طرق القرى، هادئة ولا صوت فيها. لكن الانس الوحيد في نيقوسيا كان رائحة الورود الآتية من الحدائق، ورائحة «شجرة» الكولونيا على جدران مقر الشرطة الرئيسي في ساحة المدينة. كل مساء كان عطر الشجرة يملأ الساحة، التي بغير ذلك، خالية من أي رفق.

كانت هيلن كيللر، أشهر عمياء في تاريخ أميركا، تقول إنها من رائحة الناس تستطيع أن تعرف ماذا يعملون، وتعرف إن كان أحدهم «آتيا من الحديقة أو من المطبخ أو من غرفة المرضى». وكانت قاعات القلاع في القرون الوسطى ترش بالزعفران والصعتر لكي تبعد الطاعون. وقد ميزنا الخالق عن بقية المخلوقات، ليس فقط بالعقل، الذي يرفض الإنسان الإقرار بوجوده، أو بالحاجة إليه، بل أيضا بالأنف. نحن الكائنات الوحيدة التي تفتح فمها عندما تعطس، لكي لا تترك الأنف وحيدا في ذلك. وللعطس أهمية كبرى دلالتها بما تردده الناس إذا عطس أحد عطسا: من «فرج» إلى «نشو» إلى «صحة»، إلى مختلف التمنيات التي تختلف بدورها في كل بلد وكل لغة. الإنجليز يقدرون العطسة والعاطس، بحيث يقولون له: «باركك الله».

لماذا كل هذا التوقير للعطسة؟ لأن علماء جامعة روتشستر يقولون إن العطسة تتم بسرعة 80% من سرعة الصوت، بحيث تتمكن من إخراج البكتيريا من أجسامنا. مهمتها الرئيسية أن تنظف أجسادنا. وكان أجدادنا يعرفون ذلك دون الحاجة إلى أبحاث جامعة روتشستر، فكانوا يحملون في جيوبهم باستمرار علبة «عطوس» يتنشقونها. وكانوا طوال النهار: أتشم، أتشم. عليهم الرحمة.