ديمقراطية حسب الأصول

TT

كان ممتعا متابعة ما حدث في الانتخابات العامة البريطانية وما تلاها من مفاوضات استمرت عدة أيام أفرزت حكومة ائتلاف لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية بين حزبين مختلفين آيديولوجيا؛ المحافظين والديمقراطيين الأحرار، اللذين اتفقا على برنامج عمل مشترك، بعد تنازلات من كل جانب عما كان يطرحه كل جانب من سياسات فيما لو شكل الحكومة منفردا.

وقد جاء ذلك بسبب أن الناخبين البريطانيين لم يمنحوا حزبا من الأحزاب الرئيسية الثلاثة العمال والمحافظين والأحرار الديمقراطيين تفويضا مطلقا عن طريق أغلبية تكفل له تشكيل حكومة أغلبية لوحده بعد معركة انتخابية في وقت أزمة اقتصادية، وشهدت لأول مرة مناظرات تلفزيونية أشبه بالمناظرات الأميركية الرئاسية الشهيرة.

نتيجة الاقتراع لم تستغرق 24 ساعة، بعدها ظل الموقف متأرجحا لحين انتهاء مفاوضات الأحزاب، وعندما بانت ملامح الائتلاف القديم قدم رئيس الوزراء السابق غوردن براون استقالته وتمنى لسلفه حظا سعيدا، ثم بعد لقاء الملكة وقبول الاستقالة غادر مقر رئاسة الحكومة ليذهب إلى هناك رئيس الوزراء الجديد ديفيد كاميرون الذي حرص هو وشريكه في الائتلاف زعيم حزب الأحرار الديمقراطيين نيك كليغ على شكر رئيس الوزراء السابق والإشادة بمناقبه، وجرى انتقال السلطة بسلاسة واحترام بين جميع الأطراف.

وبعد الابتسامات والكلام الجميل جاءت ساعة الحقيقة، كما عبرت عن ذلك تعليقات المعلقين في الصحف البريطانية، فالحكومة الجديدة تنتظرها قرارات صعبة غير شعبية من أجل معالجة الديون الحكومية والعجز في الميزانية الذي ترتب على تطبيق برامج الإنقاذ الهائلة للبنوك والمؤسسات المالية، وخطط التحفيز المالية لتفادي الدخول في ركود اقتصادي عميق. وغير ذلك فإن هذا الائتلاف لا يزال يتعين عليه أن يثبت أنه قادر على الاستمرار والعمل بدون أزمات تؤثر على عمل الحكومة واستمراريتها، لكن هذه قضية أخرى.

ما يستحق التوقف أمامه هو أن الناخب الذي جاء بهذا الائتلاف يعرف أن أي حكومة ستأتي سيكون أمامها قرارات صعبة عليه أن يبتلعها بشكل أو بآخر، وقد كان هذا هو المحور الأساسي للحملات الانتخابية للأحزاب الثلاثة، أي قضية الاقتصاد، والخلاف كان حول توقيت البدء في الاقتطاع من النفقات العامة وشد الأحزمة وما إذا كان ذلك سيأتي فورا أو بعد مهلة حتى لا يتأثر الانتعاش.

وكالعادة فإن أمور الاقتصاد وحساباته معقدة بالنسبة إلى الناخب العادي، لكن لا أحد من الأحزاب الثلاثة حاول إخفاءها تحت السجادة خلال الحملة الانتخابية أو حتى في الفترة السابقة على إعلان موعد الانتخابات العامة، أو سعى إلى رفع شعارات أو برامج مضللة قد توهم الناخب أنه يمكن تفادي اتخاذ قرارات صعبة غير شعبية ستمس جيبه في النهاية، وكانت هناك حالة فهم وإدراك متبادل من قبل السياسيين والناخبين أنه طالما حدث اقتراض وعجز، فإنه يتعين وضع خطط وبرامج لسداد ما جرى اقتراضه، لأنه لا توجد دولة لديها خزائن لا تنفد، وهي - بحكم الوضع السيادي - الوحيدة في أي مجتمع التي يمكنها طبع أوراق النقد بشرط أن تحافظ على الثقة وإلا اختلت المعادلة كلها، وانهارت قيمة هذه النقود.

هذا الفهم المتبادل هو الحالة الأفضل للديمقراطية حتى تعمل حسب الأصول، فهي تحتاج إلى سياسيين يصارحون جمهورهم بالحقائق كما هي حتى لو كانت أخبارا غير طيبة، ولا يبيعون الوهم بكلام معسول وشعارات حماسية، يعرفون أنها مثل الكذب؛ حبلها قصير، وهذا يخلق في النهاية حالة صحية في أي مجتمع بما يمكنه من وضع حلول عملية وواقعية لمشكلاته.