الذكرى الأولى لرحيل عبقري الرواية الطيب صالح

TT

أقامت جامعة العلوم الطبية والتكنولوجيا بالتعاون مع مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي حفلا لإحياء للذكرى الأولى لرحيل عبقري الرواية العربية الأديب الطيب صالح، وذلك يوم السبت الموافق 27 مارس (آذار) 2010 م. ضيوف شرف ذلك الحفل كانوا الأستاذ محمد بن عيسى وزير الخارجية المغربي السابق، والأستاذ حلمي النمنم الصحافي بمجلة «المصور» القاهرية، والأستاذ بشير محمد صالح شقيق الأديب الطيب صالح.

تشرفت بإلقاء كلمة جامعة العلوم الطبية والتكنولوجيا في ذلك الحفل وذكرت أن الطيب صالح كان رجلا سمحا وبسيطا وشديد التواضع، وهو ممن أثنى عليهم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ووصفهم بأنهم «الذين يألفون ويؤلفون»، تقابله لأول مرة تحس بأنك تعرفه لسنوات.

كان أول من اكتشفه من النقاد الأستاذ الكبير رجاء النقاش مثلما فعل الشهيد سيد قطب واكتشف الأديب الكبير نجيب محفوظ، وكان محفوظ روائيا مغمورا وفي بداية الطريق ولكن الأستاذ سيد قطب كان أديبا كبيرا وناقدا معروفا وكان من تلاميذ عملاق الأدب العربي الأستاذ عباس محمود العقاد النجباء. وعندما ذكرت هذه الحقيقة لم أشأ أن أستفيض فيها، وذلك لسببين: الأول هو أن المناسبة هي الاحتفال بذكرى الأديب الطيب صالح وليس نجيب محفوظ، والثاني هو أنني ظننت أن ما ذكرته هو من المسلمات الأدبية والنقدية التي لا يختلف فيها الناس.. ولم أكن أتوقع أن يعترض أحد على ما ذكرت، دع عنك أن يغضبه الذي ذكرت.

الأستاذ حلمي النمنم ذكر في كلمته في الحفل عدة نقاط أود التعليق عليها، أولها أنني خرجت عن موضوع الحفل وحاولت توظيفه للتباكي والتبرك بالأستاذ سيد قطب، وهذا الزعم ليس صحيحا، إذ إنني وفي كلمات معدودات أشرت إلى أن الأستاذ رجاء النقاش كان هو من اكتشف الروائي الطيب صالح مثلما اكتشف الأستاذ سيد قطب الروائي نجيب محفوظ، وذلك عندما كان الأستاذ سيد قطب أدبيا وناقدا قبل أن يفقده الأدب ويتفرغ للكتابة في الفكر الإسلامي وأنكر الأستاذ النمنم حقيقة أن الأستاذ سيد قطب هو من اكتشف نجيب محفوظ وذكر أن سيد قطب عندما كتب عن نجيب محفوظ كان الأخير روائيا معروفا ومشهورا وأن أول مقال لسيد قطب عن نجيب محفوظ كان عن روايته «خان الخليلي». وهذا ليس صحيحا، إذ إن سيد قطب تناول بالنقد رواية «كفاح طيبة»، وهي الرواية الثانية التي كتبها نجيب محفوظ بعد روايته «عبث الأقدار»، وكان وقتها نجيب محفوظ أديبا مغمورا لم يكتب عنه أحد، بل إن الأستاذ سيد قطب وهو الأديب والناقد الكبير لم يسمع به قبل روايته تلك.. وكان الأستاذ نجيب محفوظ هو أول من اعترف بفضل الناقد سيد قطب عليه وظل يردد بوفائه المعهود الأصيل أن سيد قطب هو أول ناقد يلتفت إليه وينتبه إلى أدبه وذلك حسب ما جاء في كتاب رجاء النقاش «في حب نجيب محفوظ» ص 181 من الطبعة الثانية. كان احتفاء سيد قطب برواية «كفاح طيبة» عظيما فجاء في مقاله النقدي في مجلة «الرسالة» العدد 587 بتاريخ 2 أكتوبر (تشرين الأول) 1944 م ص 889 أنه يحاول أن يتحفظ في الثناء على هذه القصة فتغلبه حماسة قاهرة لها وفرح جارف بها. وقال عنها أيضا: «إن قصة كفاح طيبة هي قصة الوطنية المصرية وقصة النفس المصرية تنبع من صميم قلب مصري يدرك بالفطرة حقيقة عواطف المصريين». وختم مقاله بقوله: «لو كان لي من الأمر شيء لجعلت هذه القصة في يد كل فتى وكل فتاة ولطبعتها ووزعتها على كل بيت بالمجان ولأقمت لصاحبها - الذي لا أعرفه - حفلة من حفلات التكريم التي لا عداد لها في مصر للمستحقين وغير المستحقين». وكتب سيد قطب مقالا ثانيا عن رواية «خان الخليلي» في مجلة الرسالة عدد 650 في 17 ديسمبر (كانون الأول) 1945 م قائلا عنها إنها «خطوة حاسمة في طريقنا إلى أدب قومي واضح السمات متميز المعالم ذي روح مصرية خالصة من تأثير الشوائب الأجنبية مع انتفاعه بها في الوقت الذي يؤدي فيه رسالته الإنسانية ويحمل الطابع الإنساني العام ويساير نظائره في الآداب الأخرى» وبعد أن يستعرض الرواية يختم مقاله برجاء إلى المؤلف الشاب «ألا يأخذه الغرور فما يزال أمامه الكثير لتركيز شخصيته والاهتداء إلى خصائصه واتخاذ أسلوب فني معين توسم به أعماله وطابع ذاتي خاص تعرف به طريقته وفلسفة حياة كذلك تؤثر في اتجاهه» ثم يكتب سيد قطب مقالا ثالثا عن رواية «القاهرة الجديدة» في مجلة «الرسالة» عدد 704 في 30 ديسمبر 1946 م يستنكر ما وصفه بغفلة النقد في مصر، إذ كيف تمر هذه الرواية دون أن تثير ضجة أدبية أو ضجة اجتماعية، ثم يقول: «إن أعمال نجيب محفوظ هي نقطة البدء الحقيقة في إبداع رواية قصصية عربية أصيلة، فلأول مرة يبدو الطعم المحلي والعطر القومي في عمل فني له صفه إنسانية».

وضح جليا مما تقدم أن سيد قطب هو أول من اكتشف نجيب محفوظ، وليس كما ادعى الأستاذ حلمي النمنم. أن يختلف شخص مع شخص آخر فهذا أمر أفهمه وأقبله وأن يبغض شخص شخصا آخر لاختلافه معه فهذا أمر أفهمه، وهذا ما لا أقبله، إذ إن الاختلاف ينبغي ألا يفسد للود قصية، أما أن يبغض شخص شخصا آخر لاختلافه معه ثم يدعوه هذا الاختلاف وهذا البغض إلى أن ينكر إنجازات الشخص الآخر وأن يبخس أشياءه فهذا أمر لا أفهمه ولا أقبله بل أنكره نكرانا، فهذا أمر يجافي العدل ويجانب القسط «ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى».

وذكر الأستاذ النمنم أن هذا الحفل أقيم على استحياء في إشارة إلى أن الدولة لا تنظر بعين الرضا للأديب الطيب صالح، وإذا كان ذلك صحيحا في بداية هذا العهد (عهد حكومة الإنقاذ) عندما كان شموليا قابضا فهو بالتأكيد ليس صحيحا الآن فالحكومة قد احتفلت بالطيب صالح عند زيارته للسودان وكرمته بل وأطلقت اسمه على شارع رئيسي في الخرطوم وعلى قاعة كبرى في قاعة الصداقة. والحق أن السودان حكومة وشعبا يفخر بابنه عبقري الرواية العربية الطيب صالح الذي خلد اسمه في سجل الرواية العالمية والذي رفع اسم السودان عاليا خفاقا.

*كاتب وأكاديمي سوداني