«الأهرام» و«الشرق الأوسط»

TT

كانت المرة الثانية التي أزور فيها الرياض، بينما كانت الزيارة الأولى في عام 2003 عندما كانت صحيفة «الشرق الأوسط» تحتفل بمرور ربع قرن على إنشائها. وبينما كانت الزيارة الأولى احتفالية وقصيرة، وكما هي العادة عند اجتماع عدد من الصحافيين والكتاب العرب، فإنهم لا يكفون عن الحديث في ما بينهم، فإن الزيارة الثانية كانت لبضعة أيام، ولم يكن فيها حديث إلا مع الأشقاء في العاصمة، ولا تجوال إلا بين مؤسسات سعودية عدة. وكذلك كان الكرم العربي في أرقى درجاته كما كان في الزيارة السابقة، ولكن العشاء هذه المرة لم يكن بالمجان، حيث كان من الضروري عقد لقاءين يقومان على التفاعل، في الأول مع مجموعة من المفكرين السعوديين الليبراليين، أما الثاني فقد كان مع مجموعة من المحافظين، وفي الحالتين حصلت على كمية هائلة من الكتب.

وكان الغرض الرسمي من الزيارة هو إطلاق شرارة التعاون بين مؤسستين عملاقتين في النشر العربي؛ «الأهرام» القاهرية ذات المائة والخمسة والثلاثون عاما من التاريخ بكل ما يصدر عنها ومنها من صحف ومجلات وكتب وما هو أكثر، و«المجموعة السعودية للأبحاث والتسويق» الفتيّة صاحبة «الشرق الأوسط» وكوكبة أخرى من الإصدارات ذائعة الصيت والامتداد عبر أركان الدنيا الأربعة. وفي يوم العاشر من مايو (أيار) الحالي تم التوقيع على اتفاق للتعاون بين مؤسسة «الأهرام» و«المجموعة السعودية» في مجالات الطباعة والتوزيع والنشر والإعلان والمؤتمرات وأمور أخرى متنوعة تفتح الباب لمزيد من توثيق العلاقات بين المؤسستين.

ولكن الزيارة كان فيها ما هو أبعد، وبشكل ما تعود بداية تلك الزيارة إلى لقاء مع الأمير فيصل بن سلمان رئيس «المجموعة السعودية» في واحدة من الندوات بالمملكة المتحدة منذ قرابة عشر سنوات. وكما يحدث في مثل هذه التجمعات يصبح اللقاء لقاءين: واحد مع كل المشاركين، وآخر ما بين المجموعة العربية المشاركة في اللقاء. وفي العادة فإن أصحاب المشارب المتقاربة يصبح لقاؤهم وحديثهم أكثر. وكان ذلك ما جرى في تلك الندوة، ومن وقتها بدأت صلة تباعد بها الزمن أحيانا، ولكنها في ما أظن ظلت باقية طوال الوقت، وكان ثمرتها الكتابة في «الشرق الأوسط». وحينما اتصل بي الأمير مهنئا بمنصب رئيس مجلس إدارة «الأهرام»، كان تعقيبي بعد الشكر هو أنني سوف أستمر في الكتابة ليس فقط للصحيفة التي اعتز بها، وإنما لأنني كنت مدركا أن هناك حاجة ماسّة إلى بقاء جسر مع القراء في المملكة العربية السعودية بل ومنطقة الخليج كلها. وبالطبع لم تكن المسألة سهلة لأن «المستشارين» في القاهرة لا يتسامحون كثيرا مع كتابة المسؤول الأول في مؤسسة صحافية عريقة في صحيفة «منافِسة»، كما أن المتعاطفين وجدوا أن كتابة مقال إضافة إلى ما أكتبه في «الأهرام» ومسؤولياتي في المؤسسة وأعمالي الأخرى في مجلس الشورى المصري، هو نوع من القسوة على العقل والجسد والإبداع.

ولكن العلاقة بقيت، ومع الصلة بدا أن التعاون بين «الأهرام» و«الشرق الأوسط» يمكنه أن يكون متسعا لأهداف تجارية بحتة، ومعان سياسية نبيلة. وهكذا وجدت نفسي في الرياض التي تركتها من قبلُ بمشاعر من يأتي إلى مدينة فارغة، وهو الشعور الذي يأتي إلى «القاهري» كلما أتى إلى عاصمة عربية أخرى خصوصا في منطقة الخليج، لكي أجدها مزدحمة إلى الدرجة التي تبعث على التساؤل عما إذا كان المرء ترك القاهرة أم لا يزال في قلبها. كانت العاصمة السعودية على اتساعها قد زادت أضعاف ما كانت عليه، وعلى ما فيها من جسور وأنفاق وطرق دائرية وعرضية وطولية. تعيش ازدحاما في حركة السيارات جعل الحفاظ على المواعيد المقررة نوعا من المستحيل. وفي مثل هذه الحالة لا تستطيع أن تمنع الخاطر الذي يأتي إلى الذهن عما سيكون عليه الحال إذا ما أقر للنساء قيادة السيارات، وعرفت السعودية سبيل المواصلات العامة التي لا يبدو لها أثر؟

وأعترف بأن الشعور بأنني لم أبتعد عن القاهرة كثيرا لم يكن ليسعدني تماما، ولكن كانت هناك أسباب أكثر للمتعة والدهشة والسعادة، ومعها جميعا الحيرة والتعاسة أحيانا أخرى. وربما كانت احتفالية الملك خالد (رحمه الله) من التجارب التي لا تُنسى، حيث كان تاريخ السعودية يجري نسجه باعتباره نتاج مراحل متعاقبة من البناء والتواصل. كانت الفكرة في حد ذاتها رائعة من الناحية الأكاديمية البحتة حيث تم بعث فترة تاريخية بأكملها لكي يتم إحياؤها في ذاكرة الحاضر وتعطى اعترافا بالفضل لملك من ناحية، لكنها تعطى إدراكا لمرحلة من ناحية أخرى. وبشكل أو بآخر فقد كان الملك خالد بامتياز هو من شهد عصر الثورة النفطية ووضع بذور الاستفادة منها، كما كان هو الآخر الذي رأى التقلصات التي ترتبت عليها من أول الحرب العراقية الإيرانية، والثورة الإيرانية، وأخيرا حادثة الاستيلاء على الحرم المكي الشريف وتحريره. وتبدو الفكرة حاضرة أكثر عندما يظهر دور الأسرة السعودية من الملك عبد العزيز آل سعود وحتى الملك عبد الله بن عبد العزيز وهي تضع هوية لدولة أخذتها من صميم الفوضى والبدع والاقتتال حتى تصل بها إلى مشارف الحداثة مع القرن الحادي والعشرين.

جرى الحديث في كل الموضوعات تقريبا، وسواء كان الحديث في كلية الحقوق والعلوم السياسية بجامعة الملك سعود أو في جمعية الصحافيين أو أثناء عشاء الأمير فيصل بن سلمان أو وليمة الدكتور عبد الرحمن الشبيلي، فقد كان حول مصر والسعودية وإيران والديمقراطية والإعلام وبالطبع فلسطين. وكان القلق بين المثقفين سائدا على كل الأصعدة، ولم يكن ذلك غريبا على «القاهري» الذي أتى من حيث ينبت القلق ويغيب اليقين، ولكن العوض جاء مع لقاء المسؤولين حيث ظهر أن كل الأمور على ما تبدو عليه من غيوم وأعاصير لا يوجد فيها جديد في منطقة لم تعرف شيئا غيرها. فما نجده حاليا ليس إلا فصلا آخر مما كنا نعرف من وجوه وقوى وأحداث وأسماء.

ولكن الموضوع الوحيد الذي بدا عليه اتفاق في كل جمع هو أهمية العلاقات المصرية - السعودية من ناحية، وأنها غير مستثمرة بالقدر الكافي من ناحية أخرى. وكانت المصادفة وحدها هي التي جعلت الدكتور سيف الإسلام القذافي - ولا يحتاج الرجل إلى تعريف - يزور «الأهرام» قبل يوم من بدء زيارتي للرياض ليقول في لقاء على غداء مع عدد من الكتاب والمفكرين إن مصر والسعودية والعلاقات بينهما هي المحور والأساس الذي يقوم عليه العالم العربي. وعندما نقلت ذلك إلى الأصدقاء السعوديين لم أجد إلا الصمت الذي لا أدري إن كان تعبيرا عن الدهشة أو الحيرة أو أن الرجل ببساطة لم يكن يقول شيئا لا يعرفونه من قبل.

ومع ذلك فإن اللقاءات بعثت على التساؤل: إذا كانت العلاقات محورية إلى هذا الحد، وإذا كان جل اللقاء مع صاحب السمو الملكي سلمان بن عبد العزيز قد دار في شرح الروابط التاريخية والمتينة بين الشعبين المصري والسعودي، والصلات الوثيقة بين القيادات السياسية، وإذا كان مليون مصري يعيشون في السعودية وقرابة نصف مليون سعودي في مصر، وبين الطرفين علاقات اقتصادية عميقة، فما الذي يقف أمام هذه العلاقة، ليس فقط لكي تنمو وتزدهر، بل أيضا لكي تضبط حركة الشرق الأوسط المتجهة بقوة نحو ساحات متنوعة من الفوضى؟ والإجابة لم تكن أبدا سهلة، ولكن بداياتها أن المعرفة ليست كافية بأساليب وطرق العمل السياسية وحتى الثقافة في البلدين، وعدد المتخصصين في الشأن السعودي والمصري لدى البلدين يُحصَى على أصابع اليد الواحدة، والأمر دائما يقوم على انطباعات تشكلها أجهزة إعلام مغرضة، وهناك للأسف فقر هائل في مجالس التفكير المشتركة.

فهل كنا نسعى من خلال اتفاق «الأهرام» و«الشرق الأوسط» إلى أن نوجد، بالإضافة إلى كل الفوائد التجارية، مجلسا للتفكير والفهم والدراسة والأمل؟ الإجابة على ذلك مبكرة للغاية، ولكن طريق الألف ميل يبدأ دائما بخطوة واحدة تعبّر عن مصالح مشتركة!