الأردن.. «الوطن البديل» و«الحقوق المنقوصة» وجهان لعملة واحدة!

TT

الصورة نفسها وإياها لكن الأسباب والدوافع مختلفة، ففي الفترة التي ساد فيها شحُّ المواد الاستهلاكية كانت الطوابير والأرتال الطويلة في شوارع مدن العراق ظاهرة عادية. وذهب التندر بهذه الظاهرة إلى حدِّ القول إن مواطنا كان يتمختر في أحد شوارع بغداد، وقادته قدماه إلى ركنٍ بدا فيه طابور طويل، فظن أن هناك بيعا على إحدى المواد الغذائية شبه المفقودة، فاندفع ليأخذ مكانه في نهاية الطابور وبقي ينتظر إلى أن جاء دوره ووصل إلى النافذة المقصودة، فوجد، خلافا لما كان توقعه، أن المكان مخصص لدفع فواتير الكهرباء. تردد في بداية الأمر لكنه عندما رأى أن الناس يراقبونه بعيون متيقظة وأن بعضهم قد ضاق بتردده ذرعا مدَّ يده إلى جيبه وتناول لفَّة من الدنانير ودفع بها إلى الموظف المكلف بالقبض الذي يحتل واجهة النافذة بمنكبيه العريضين وهو يقول بصوت مرتفع: لقد كنت قد دفعت فواتير ما صرفناه من كهرباء منذ يومين لكن «ما يهم» أدفع مرة أخرى.. فالموت مع الناس رحمة!!.

وهكذا ففي إطار ظاهرة البيانات والبيانات المضادة وظاهرة العرائض والعرائض المخالفة التي جاءت ردّا على ما سبقها، أعدَّ مسؤول أردني سابق تقلَّب في أهم وأخطر مواقع المسؤولية بيانا، ظاهره الحرص على «البلد» وعلى الوحدة الوطنية، وباطنه سمُّ سياسي زعافٌّ صبَّه على الواقع السياسي الرسمي، حيث وصف هذا الواقع، الذي كان هو نفسه أحد الرموز المتقدمة لما هو أسوأ منه بألف مرة، بأنه يتسم بانعدام الشفافية في السياسات والتشريعات «وخاصة قانون الانتخاب الذي يصاغ في العتمة بحيث أصبح لغزا في مرحلة شعارها الشفافية، هي في رأينا وراء هذا التشتت في الرؤى والانقسام حول المستقبل»!!.

وبالطبع فإن قانون الانتخاب المقصود هو القانون الذي أقرته الحكومة الأردنية أول من أمس (الثلاثاء)، الذي اعتمد الصوت الواحد والدائرة الواحدة واتسم بالاقتراب مما هو معمولٍ به ومتبعٍ في بريطانيا. وهنا فإنه لا بد من الإشارة إلى أن هذا القانون، وبخاصة اعتماد الصوت الواحد، بقي يواجه بانتقادات قوى المعارضة وفي مقدمتها «الإخوان المسلمون». ذلك على الرغم من أن هؤلاء قد اشتركوا في أكثر من انتخابات تشريعية أُجريت على أساس هذا القانون، ومع أن كل الأحزاب المعارضة الأخرى قد شاركت في انتخابات عام 1989 التي أُجريت وفقا للنظام المتعدد الأصوات، لكن نجاحاتها كانت شبه معدومة حيث لم يفز إلاَّ عدد يقل عن عدد أصابع اليد الواحدة، وبالاستناد إلى قواعدهم العشائرية وليس إلى أحزابهم.

قبل بيان المسؤول الأردني السابق الكبير، الذي ذهب إليه الذين وقعوه بغالبية لم تقرأه قبل توقيعه على طريقة الذهاب للاصطفاف في أرتال وطوابير المواد الغذائية في العراق في تلك المرحلة المشار إليها آنفا، كان قد صدر بيانان أحدهما نُسب إلى «اللجنة الوطنية للمتقاعدين العسكريين»، وجاء ردّا على مقال كتبه لصحيفة «جيروزاليم بوست» التابعة للخارجية الإسرائيلية شابٌ فلسطيني مقيم في الولايات المتحدة، ويقال إنه يحمل الجنسية الأميركية، وعلى مقالٍ آخر كتبه محامٍ من أصل فلسطيني أقام في الكويت وعمل بها سنوات طويلة، قبل غزو صدام حسين الشهير، وجد نفسه سياسيا، بعد أن تقدم به العمر، على قارعة الطريق. ووجد أنه لم يضع نفسه لا في القاطرة الأردنية ولا في القاطرة الفلسطينية في الوقت المناسب، فلا بد أن يعود إلى معزوفة «الحقوق المنقوصة» التي لجأ إلى عزفها الذين باتوا يعيشون بطالة سياسية بعد انتهاء الخلافات والتعارضات بين الأردن ومنظمة التحرير، وبعد أن أصبح الأردنيون يكرسون كل جهودهم لنصرة ومساندة هذه المنظمة، وبذْل كل ما هو ممكن وأكثر منه لانتزاع حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة على ما احتُل من وطنه في حرب يونيو (حزيران) عام 1967.

جاء ردُّ «اللجنة الوطنية للمتقاعدين العسكريين»، التي لا يزيد عدد أعضائها على نحو ستين عضوا لم يوقع من بينهم على البيان المشار إليه آنفا إلا عشرون فقط، متهورا وينضح بالإقليمية البغيضة والنَّقد غير المتزن للحكومة الأردنية. فردت «مؤسسة المتقاعدين العسكريين»، التي تضم أكثر من مائة وعشرين ألفا من المنتسبين والأعضاء، ببيان هادئ مقتضب تركز على أن هذه «اللجنة الوطنية» لا تمثل إلا نفسها، وأن عدد الأعضاء الذين ينتسبون إليها وعدد الذين وقعوا على بيانها يجعل أنه لا يحق لها أن تدعي تمثيل قطاعٍ واسعٍ من متقاعدي القوات المسلحة الأردنية والأجهزة الأمنية.

واللافت حقا، وهذا ما يقوله الأردنيون بغالبيتهم ومن بينهم ذوو الأصول الفلسطينية، أن معزوفة «الوطن البديل» ومعها ظاهرة المطالبة بما يسمى «الحقوق المنقوصة» لا يشتد الجدل حولهما إلاَّ عندما يضاعف الأردن جهوده الدبلوماسية في الساحات الدولية كلها، وبخاصة ساحة دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، للضغط في اتجاه إلزام إسرائيل وإجبارها على دفع استحقاقات عملية السلام والإذعان للإرادة العالمية المصممة على أنه لا حل لأزمة الشرق الأوسط إلا بقيام الدولة المستقلة القابلة للحياة والاستمرار المنشودة، وأيضا عندما يشتد الضغط على عنق اليمين الإسرائيلي فيجد أنه لا بد من المسارعة لتصدير أزمته إلى المملكة الأردنية الهاشمية.

في كل مرة يتكثف فيها الضغط الأميركي والدولي على إسرائيل لحمل حكومتها اليمينية على الإذعان لاستحقاقات عملية السلام، ينشر أحد عتاة اليمين الإسرائيلي المتطرف مقالا في إحدى الصحف الإسرائيلية الثانوية أو الرئيسية، يدعو فيه إلى أن تكون الدولة الفلسطينية المستقلة في الأردن، فتشرئب أعناق دعاة «الحقوق المنقوصة» وينتفض أصحاب نظرية «الوطن البديل»؛ وكأن المقصود هو إرباك القيادة الأردنية وإشغالها عن جهود الضغط لإجبار الإسرائيليين على التخلي عن عنادهم والانصياع للإرادة الدولية بدفع مستلزمات العملية السلمية. وكأن الهدف هو إثبات صحة ما تقوله الأحزاب والقوى الإسرائيلية الأكثر تطرفا من أن الدولة المستقلة التي يطالب بها الفلسطينيون قائمة على أرض الواقع في الضفة الشرقية أي في المملكة الأردنية الهاشمية.

وحقيقة، وهذا يعرفه كل العرب الذين ينظرون إلى الأمور من زوايا عيون غير مصابة بالحول، أنه لا واقع الأردن كدولة راسخة وثابتة ومتماسكة وكشعب متمسك بوطنه وبسيادة هذا الوطن ولا واقع الشعب الفلسطيني الذي يرفض لوطنه بديلا رغم قسوة الظروف التي يعيشها، يجعل من أكذوبة «الوطن البديل» مسألة فعلية وصحيحة. فهذه قضية مضى عليها الزمن وتجاوزتها الأحداث؛ فالعالم كله بدون استثناء ومعه قطاع مؤثر من الإسرائيليين بات يرى أن مكان دولة الفلسطينيين المستقلة هو الجزء الذي احتُل من فلسطين في يونيو (حزيران) عام 1967، وأن الدولة القائمة في الأردن، التي هي المملكة الأردنية الهاشمية، هي دولة الشعب الأردني بكل أصوله وفروعه ومكوناته الإثنية والدينية.

لا يعاني الأردن لا من ظاهرة «حوثية» بلون آخر مثل الظاهرة التي عانى منها اليمن وخاض معها 6 حروب متتالية، ولا من تفشي الإرهاب في جسده على غرار ما هو قائم في بعض الدول العربية، حتى تخرج تلك البيانات التي تصوره، كأنه على وشك الانهيار، ليتحقق حلم اليمين الإسرائيلي الأكثر تطرفا بإقامة ما يسمى «الوطن البديل». ولعل ما يعرفه العرب وغير العرب الذين لهم اطلاع، ولو محدود، على واقع هذا البلد، المملكة الأردنية الهاشمية، عن قرب، يدركون أن هذه البيانات المشار إليها هي مجرد نعيق غربان شؤم لا تخدم إلا الأحزاب الإسرائيلية اليمينية، وأن الذين يتحدثون عن «حقوق منقوصة» على قلتهم وهامشيتهم، إنما يدعون الشعب الفلسطيني للاستسلام واستبدال وطنه ووطن آبائه وأجداده بوطن هو وطن الشعب الأردني الذي سكب على أرض فلسطين أغلى الدماء، والذي يتمسك بالحقوق الفلسطينية المشروعة تمسكه هو بحقوقه على أرض وطنه، والذي يعتبر إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة المنشودة هدفا مقدسّا وطنيا وقوميّا ودينيا.