معركة طرابلس وحسم الزعامة السنية

TT

كل انتخابات مهما صغر شأنها في طرابلس، تتحول إلى ما يشبه استفتاء على رئاسة مجلس الوزراء، أعلى منصب يمكن أن يتبوأه لبناني سني (أو لبنانية مع وقف التنفيذ). ولن تشذ الانتخابات البلدية التي ستجرى في الثلاثين من الشهر الحالي، عن سابقاتها. وإن كانت المعارك البلدية التي جرت وتجري في بيروت والبقاع والجنوب قد شغلت كبار الرؤوس السياسية واعتبرت بارومترا لقياس مستوى الأحجام والأوزان، فإن المعركة في طرابلس، عاصمة الشمال التي يريد الجميع تفاديها، بتشكيل لائحة توافقية ترضي الأطراف، يتم تدارسها أو تناهشها بسرية وخبث قل نظيريهما، في بلد ينشر غسيله، النظيف كما الوسخ، على الشرفات المشكوفة.

وفي مدينة تجتمع فيها حصرا، الرؤوس السنية الكبيرة الطامحة إلى رئاسة مجلس الوزراء، بعد أن أصبحت، المدينتان السنيتان الأخريان؛ صيدا وبيروت، في القبضة الحريرية، يبدو أن كلا يرسم خططه ويعيد تقييم حساباته تحت غطاء مريح يستر المطامع والفخاخ عنوانه الفني: «التوافق على التوافق».

ثلاث زعامات على الأقل مرشحة لرئاسة الوزارة، عند أي مفصل حرج، عليها أن تثبت وزنها في انتخابات طرابلس ومدينة الميناء المجاورة لها، بحيث اعتبرت المدينتان التوأمان سلة واحدة، ويتم التفاوض على بلديتهما معا. هناك رئيس الوزراء السابق نجيب ميقاتي، ووزير الاقتصاد والتجارة الحالي محمد الصفدي، كما هناك آخر زعيم تقليدي للمدينة خرج من الانتخابات النيابية الأخيرة عمر كرامي. أما الزعيم الفعلي الذي يحظى بأكبر شعبية في الوقت الراهن فهو ليس ابن المدينة، وإنما سعد الحريري العائدة أصوله إلى صيدا. مسألة لا تنظر إليها الزعامات الطرابلسية الأصل بكثير من الارتياح، ويسعى كل منهم، لسحب بساط طرابلس من تحت رجليه، خاصة أن مخاضات الحكم ومهالكه، كما مزالق فريق «14 آذار» الكثيرة، سلبت الحريري الابن بعضا من وهجه السابق. أما وإن الواقع الحالي لا يزال يفرض نفسه، فقد ارتأى الحريري، وهو لا يزال صاحب الحل والربط ألا يخرج كرامي من اللعبة، كما كان يفعل سابقا، ربما استكمالا للتقارب مع سورية. هكذا يحاول «الأعدقاء» الأربعة، حريري، صفدي، ميقاتي، وكرامي، على الرغم من التنافس الصعب، أن يتعايشوا ويتقاسموا بالتراضي، قالب الحلوى البلدي بما له من رمزية، وربما أن كل واحد منهم، يتمنى - في سره - لو أن الأرض تنشق لتبتلع الآخرين، وتخلو له الساحة.

في الكواليس الكلام كثير، عن صفقة بين حريري وكرامي، بحيث يهادن كرامي الحريري في المدينة، مقابل أن يسهل له انطلاقة ابنه فيصل السياسية، بعد أن قرر كرامي اعتزال الترشح لأي انتخابات مقبلة. وكلام أيضا عن محاولة الصفدي إحداث نوع من التباعد بين ميقاتي والحريري، وهمس قوي عن دعم إقليمي لدور ميقاتي، ليخلف الحريري في أي وزارة جديدة قد تبصر النور، مما يجعل الأول يتعامل بدبلوماسية فائقة في مرحلة يعتبرها دقيقة، وهو ما يغيظ الآخرين. وبالمختصر، فإن «التوافق» المنشود، بين أصحاب النفوذ، هو ضحك على اللحى، وتغرير بالمواطنين الذين غاية مطالبهم، العيش بكرامة في مدينة نظيفة وآمنة.

وحين يتحدث نائب طرابلس السابق مصباح الأحدب الذي كان حليفا للحريري منذ شهور خلت يصف ما يحدث بأنه «محاصصة»، ويقول هازئا من زعماء المدينة بأنهم: «كالقلم في قبضة الرب، فمن لا يرى القبضة عند الكتابة يظن الكتابة من حركة القلم»، معتبرا أن ثمة يدا خفية تحرك اللعبة برمتها، لا يستطيع الإفصاح عنها.

والأحدب الذي يقال بأنه سيشكل لائحة منافسة للائحة الزعماء الأعدقاء، سيعتمد، إن هو فعل، على عدة عوامل يعتبر أن الحريري ضعف نفوذه في المدينة بسببها، أهمها مصالحته مع سورية بينما لا تزال أسماء الذين ناصروه من الطرابلسيين، موجودة على لوائح سوداء، على الحدود السورية. وفي رأي الأحدب أن حكومات الحريري والسنيورة منذ عام 2005 إلى اليوم فشلت في الإنماء الذي وعدت به المواطنين، مما خلق نوعا من الخلخلة في الشعبية الحريرية، كما يتحدث عما كان يسمى «أفواج طرابلس»، وهو تنظيم شعبي تبناه الحريري ماليا ومعنويا ثم تم حلّه، وانفرط عقد من كانوا جزءا منه، وأحبطوا ليتحولوا إلى مناوئين لرئيس مجلس الوزراء الحالي. كل هذه العوامل في رأي الأحدب أضعفت الحريري في طرابلس، وهي تجعله يستشهد بقول لكونفوشيوس مفاده أنه «حيث هناك فوضى ثمة فرصة سانحة».

وربما على هذه الفوضى سيراهن بعض الإسلاميين أيضا الذين يعتبرون أنهم يستخدمون كحطب لمعارك الزعامات الرئاسية ويتم إقصاؤهم عند الحصاد. وهناك الجمعيات النسائية التي تهدد بمقاطعة الانتخابات إن لم تعط حصة 20% من أصل المجلس البلدي. كما أن هناك رئيس بلدية طرابلس الحالي الذي يرفض التنازل عن كرسيه ويصر على الترشح من جديد، ضاربا عرض الحائط بكل ما يريده كبار القوم وزعماؤهم.

وبصرف النظر إن كانت الساعات المقبلة ستحمل توافقا بين الزعامات السنية الكبيرة على بلدية طرابلس، أو اختلافا بينها، وسواء استطاع مصباح الأحدب أن يزعج أو يخترق لائحة الطامحين إلى رئاسة الوزارة أو هو فشل، فإن الانتخابات برمتها تفقد معناها الإنمائي الحقيقي، وتنعكس مزيدا من الإحباط على حياة الناس. فالغائب الأكبر عن هذه الانتخابات البلدية في لبنان كله هو البرامج، والحاضر الأوفر حظا هو التزاحم السلطوي المفرّغ من أي اعتبار لمصالح المواطنين. وفي مدينة طرابلس التي تضم مناطق صنفت الأكثر فقرا على مستوى لبنان برمته، يتنافس ثلاثة زعماء يعتبرون من كبار الأثرياء في العالم وهم حريري، وميقاتي، وصفدي، وعلى الرغم من إنفاقهم السخي ومشاريعهم المستمرة، فإن المدينة لا تزال تسير إلى الوراء وتزداد عوزا، أوَليس لهذا من مغزى وعبر؟