الأصولية والجهل المقدس

TT

منذ زمن طويل وأنا أبحث بشكل واعٍ أو لا واعٍ عن مصطلح واحد يلخص المرحلة بأسرها من دون أن أجده. كنت أدور حوله وألف دون جدوى. وأخيرا عثرت عليه بالمصادفة عند أوليفييه روا أحد كبار المختصين الفرنسيين بالحركات الأصولية من إسلامية ومسيحية ويهودية. ومعلوم أنه مؤلف كتاب «فشل حركات الإسلام السياسي» ومختص بشؤون أفغانستان وباكستان ومنافس جيل كيبل على دراسة موضوع الأصولية الذي يشغل العالم كله الآن. هذا المصطلح الذي شفى غليلي وأضاء لي عتمات قلبي هو «الجهل المقدس». هكذا تلاحظون أنه عن طريق الجهل وصلت إلى مبتغاي. وأكاد أقول:

يا ظلامَ الجهل خيِّمْ

إننا نهوى الظلاما

لكن هل يستطيع أن يخيم أكثر مما هو مخيم؟ قبل أن أشرحه وأضيء المرحلة من خلاله، سوف أقول إن المفكرين الحقيقيين هم وحدهم الذين يستطيعون التوصل إلى مرحلة بلورة المصطلحات الكبرى التي تضيء بطرفة عين غياهب الظلمات. لن أعظم في شأن أوليفييه روا أكثر مما يجب، ولن أجعل منه هيدغر العصور الحديثة. ولكن كفاه فخرا أنه توصل أخيرا إلى بلورة هذا المصطلح الفعال الناجح، مصطلح واحد يكفي لتخليده. ومعلوم أن المصطلحات الذكية أو العبقرية هي عكازات الفكر. فهو لا يستطيع أن يتقدم إلى الأمام وينير العتمات دون التعكز عليها. فكر من دون مصطلحات دقيقة هو عبارة عن موضوعات إنشاء أو ثرثرات فارغة. إنه إلقاء للكلام على عواهنه لا أكثر ولا أقل.

قد تقولون بعد أن يكون قد نفد صبركم: «يا أخي بالله عليك فرّغ ما في جعبتك وقل لنا أخيرا ما هذا الجهل المقدس الذي سحرك إلى هذا الحد!». أنتم تعلمون أيها السادة أن الجهل كلمة سلبية لا إيجابية، فما بالكم في أن يصبح مقدسا؟ هل هذا معقول؟ هل يضحك علينا الباحث يا ترى؟ هل يستفزنا؟ هل يقصد مثلا أن الجهل أفضل من العلم؟ معاذ الله. هذا المصطلح ينطوي على نظرية كاملة سوف أشرحها لكم ولنفسي على النحو التالي: يرى أوليفييه روا أن العولمة على عكس ما نظن شجعت على ازدهار الحركات الأصولية، سواء اتخذت هذه الأصولية شكل السلفية الإسلامية أو السلفية البروتستانتية الأميركية أو السلفية اليهودية، إلخ. وهذه الأصوليات السلفية ترى في الثقافة الدنيوية القديمة والحديثة نوعا من الوثنية التي تبعد عن الله. وبالتالي فما يميز الأصوليات المعاصرة هو العداء للثقافة. لماذا؟ لأنها في رأيهم إما لا تضيف شيئا جديدا إلى الدين وبالتالي فلا نفع فيها، وإما تشكّل حجر عثرة أمام أداء الفرائض الدينية. وبالتالي فهي تضييع وقت. وفي كلتا الحالتين هي مدانة. ينتج عن ذلك أن الجهل يصبح لأول مرة قيمة إيجابية بامتياز. فالجهل بالسينما والمسرح والموسيقى وكل النظريات الفلسفية والأدبية واللوحات الفنية يصبح غاية الغايات. إنه الجهل المقدس، أي الجهل الذي يحمينا من التلوث بموزار وبيتهوفين ورافائيلو ومايكل أنجلو وفان غوخ وأفكار أفلاطون وأرسطو وكانط وكل الفكر الحديث.

ما أجمل هذا الجهل وما أرقاه وما أعظمه! أكاد أقول: «اللهم زدنا جهلا على جهل»! قد تضحكون وتقهقهون وتقولون بأني ألعب وأتسلى على هواي وأني لست جادا. لقد أصبحت سفسطائيا. لا أيها السادة، إنني جاد كل الجدية، وأكبر دليل على ذلك هو أنني، شخصيا، كنت مفعما بالجهل المقدس في شبابي الأول. نعم، كنت أصوليا انغلاقيا سلفيا بالمعنى الحرفي للكلمة. وكنت أحلم بهجرة المجتمع والقرية والاختلاء في البراري والقفار مع كتاب الله فقط حيث أتلو آياته صباح مساء حتى آخر لحظة، حتى يحين أجلي. فأدخل الجنة بعدئذ طاهرا مطهرا من دون أن أكون قد تلوثت بالثقافات الفارغة لهذا العالم الأرضي. من يصدق ذلك؟ أنا نفسي لا أكاد أصدق ما أقول. ومع ذلك فهذه هي الحقيقة. صدقوا أو لا تصدقوا. كان هذا حلمي، مثالي الأعلى آنذاك، قبل أن أكتشف العلم المحرم والثقافة الدنيوية. وقد حصل ذلك على يد اللبنانيين والمصريين من أمثال نعيمة وجبران والمازني والعقاد والمنفلوطي والنظرات والعبرات والآنسات والسيدات.. هذا ناهيك بالثقافة الفرنسية والأوروبية لاحقا. وهكذا انتقلت من الثقافة الدينية المحضة إلى الثقافة الدنيوية، وأصبحت شخصا آخر. وهكذا تخليت شيئا فشيئا عن تربيتي الأولى، عن جهلي المقدس. ما أعظم جهلي! وابتسمت للحياة أو قل ابتسمَت لي الحياة ولم أعد متجهم الوجه، عبوسا قمطريرا.

قد تقولون: «ولكنك ربحت الدنيا وخسرت الآخرة؟»، أبدا لا. فالإيمان لم يفارقني لحظة واحدة، وإلا لكنت قد سقطت وما استطعت مقاومة ما تعرضت له حتى الآن. ولكنه أصبح إيمانا آخر، إيمانا داخليا، جوهرانيا، حرا متحررا من القشور، والأصفاد والقيود. وقد دفعت ثمنه عدا ونقدا. اللهم زدني إيمانا على إيمان وأفقا رحبا على أفق.. على هذا النحو تحررت من الجهل المقدس وتوصلت إلى العلم المقدس والإيمان المستنير.