نجاح جديد لـ«النيوعثمانية»

TT

قد تكمن عبرة الاتفاق الإيراني النووي مع تركيا والبرازيل في استعداد طهران «للتنازل» عن مواقفها «الثورية» والقبول بدبلوماسية التفاوض.

أما البعد الشرق أوسطي للاتفاق فلا جدال في أنه يندرج في خانة تعزيز النجاحات التي تحققها حكومة «حزب العدالة والتنمية» في دبلوماسيتها الممكن تسميتها بـ«النيوعثمانية» من حيث عودتها إلى تقديم التعامل مع دول الجوار على توقها «الرومانسي» للانتماء إلى المدى الأوروبي.

سواء نجحت إيران أم فشلت في رمي كرة برنامجها النووي في ملعب الدول الكبرى بعد توقيعها اتفاق مبادلة الوقود النووي مع تركيا والبرازيل، وسواء هدّأ هذا الاتفاق من قلق العواصم الغربية أم جعلها تزداد تشكيكا بنوايا إيران النووية.. تبقى تركيا، وتحديدا حكومة «حزب العدالة والتنمية»، المنتصر الأول في مفاوضات طهران.

حتى فترة قريبة كانت سياسة تركيا الشرق أوسطية أسيرة مصالح لاعبين «حليفين» و«مضاربين» لها في الوقت نفسه؛ الأول حليف دولي (الولايات المتحدة) والثاني إقليمي (إسرائيل). ولكن إحباط العواصم الأوروبية آمال أنقرة في الانتماء إلى الاتحاد الأوروبي وتطلع حكومة رجب طيب أردوغان إلى تعويض فقدان هذه الساحة الواعدة لموقع تركيا الدولي بساحة «بديلة»، هي منطقة الشرق الأوسط، شكّلا عاملين مؤثرين فيما يمكن اعتباره «انعتاق» القرار التركي الخارجي من أسر واشنطن وتل أبيب.

وإذا كان انهيار الاتحاد السوفياتي قلل من أهمية دور تركيا العسكري في حلف الشمال الأطلسي، ففي المقابل ساعد زوال الإمبراطورية السوفياتية في عودة تركيا إلى الانفتاح على دول الإمبراطورية العثمانية السابقة في الشرق الأوسط والبلقان ووسط آسيا والقوقاز.

مع ذلك قد لا تمثل عودة تركيا بقوة إلى ساحتها الخلفية في الشرق الأوسط «تعويضا» لدورها الأوروبي المحبط، بقدر ما تشكل تحديا سياسيا للاتحاد الأوروبي قد يحمله على إعادة النظر في «أهلية» تركيا لعضوية كاملة فيه، خصوصا أن المنطلق الأساس لإنجازات تركيا الدبلوماسية كان نجاح حكومة «حزب العدالة والتنمية» في نقل الدولة من حالة «الفصام» التي كانت تعيشها على أكثر من صعيد واحد إلى حالة استقرار نفسي واجتماعي:

- على صعيد النظام الديمقراطي، تجاوز حزب العدالة الازدواجية القائمة منذ عهد أتاتورك بين الواجهة البرلمانية للحكم والكلمة المطاعة للمؤسسة العسكرية بتثبيت أقدام المؤسسة المدنية.

- على صعيد الهوية القومية، تخطى حزب العدالة الازدواجية الناجمة عن الدولة العلمانية في الظاهر، والإسلامية في الباطن، بتجربة تعايش ناجح بين الدستور (العلماني) والممارسة (الإسلامية).

- أما عقدة الفصام الثالثة المتمثلة في تناقض واقع تركيا الجغرافي (آسيا الصغرى) مع توقها الحضاري للانتماء إلى الاتحاد الأوروبي، فقد بدأت حكومة أردوغان باعتماد مقاربة واقعية لها ظهرت في تبريد علاقاتها مع العواصم الأوروبية، وتمتينها مع الدول الشرق أوسطية، موحية بأن مرحلة «استجداء» عضوية الاتحاد الأوروبي انقضت، لتحل محلها مرحلة إثبات أهلية تركيا لعضوية الاتحاد.

في خانة إثبات هذه الأهلية يندرج التحرك الدبلوماسي التركي النشط في الشرق الأوسط، سواء على صعيد لعب دور الوسيط في المحادثات السورية - الإسرائيلية غير المباشرة، أم على صعيد حلحلة الخلافات اللبنانية - السورية، أم على صعيد المساهمة في إيجاد تسوية تفاوضية لأزمة الملف النووي الإيراني.

تركيا اليوم دولة واثقة من نفسها ومن موقعها ومن اقتصادها؛ فلماذا لا تثبت للاتحاد الأوروبي أنها تملك خيارات أخرى إقليمية، غير عضويته، وأنها تعرف كيف تعزز نفوذها الناعم في أوروبا وآسيا الوسطى والشرق الأوسط؟.