ارحمنا يا دكتور زويل!

TT

محاضرات الدكتور أحمد زويل، العالم المصري الحائز لجائزة نوبل في العلوم، تتسبب في زيادة العقد النفسية للكثيرين ممن يستمعون إليها! فالرجل حصل على جائزة نوبل كتقدير ومكافأة لاكتشافه «الفيمتو ثانية» وهو أصغر جزء من الثانية، وبالتالي من عنصر الوقت تم التوصل إليه. ونظريا، اختراع كهذا من شأنه أن يسهم بشكل مباشر في تحسين وسائل التشخيص والعلاج في الطب وتطوير أدوات البحث العلمي والمختبرات وعلوم الفلك والفضاء وأبحاث الجيولوجيا وعلوم البحار وغيرها. إنه إنجاز علمي مبهر وفوائده أكبر من أن تحصى.

لكن يا دكتور أحمد.. أين نحن من الفيمتو ثانية؟ تناولت هذا السؤال مع مجموعة من الأصدقاء في سهرة جمعتنا منذ فترة ليست ببعيدة. في مجتمعات لا قيمة للوقت فيها ولا معنى له، يأتي اكتشاف الفيمتو ثانية أشبه بالصدمة الحضارية، ولا يؤخذ بمحمل الجد. في مجتمعات اليوم فيها مثل الأمس والغد ولا يختلف عن بعد غد، يكون الحديث عن الفيمتو ثانية مفزعا! مجتمعات غرقت وتمسكت بماضيها ولا علاقة لها بمستقبلها. وعليه، فإن الفيمتو ثانية كائن غريب بالنسبة لها.

هناك «الفيمتو واسطة» وهي مسألة يعيشها العربي بامتياز ليرى كيف أن «تدخلا ما» يقلب المسائل في أقل من الفيمتو ثانية. هناك «الفيمتو فتوى» وهي رأي يخرج بشكل غريب وشاذ ليصبح رأيا معتدا به ويتم تداوله على أنه رؤية شرعية يجب الأخذ بها! هناك «الفيمتو كوسة» وهي انتشار المحاسيب والأنصار بشكل يدعو للعجب. مجتمعات نخرها انعدام الدقة، وسادت فيها لغة «تقريبا» و«يمكن» و«بعدين» و«نشوف» و«ماشي» و«اللي بدك»، كيف لها أن تراعي «دقة» الفيمتو ثانية؟

«هل كان من الضروري يفضحنا ويجيب لنا الكآبة ها الدكتور زويل؟».. «كيف يكون العلم نورا ونحن من دون كهرباء كافية؟».. سؤالان آخران طرحهما أحد الحاضرين ليعلق عليهما. قالوا: «من طلب العلا سهر الليالي»، ونحن أمة دكاترة في موضوع السهر هذا.. كل التعليقات والردود ظاهرها الطاغي هو الإحباط. هناك حالة كبيرة من الإحباط تسكن شريحة غير بسيطة من العرب، شريحة تعتقد أن كل إنجازاتهم «المبهرة» لا تتم إلا في أراضي الغير، العربي لا يتألق في بلاده ولا ينجح إلا خارجها، لأن التربة هناك أخصب والفرص فيها عدالة وسوية أكثر. قد يكون هذا الحكم قاسيا وشديدا، لكنه لم يأت من فراغ حتما. فبقدر فرحة العرب بإنجاز أحمد زويل الكبير، كان خجلهم منه. لأنه يفضح حالهم أكثر ويعري واقعهم أكثر. ها هو زويل قد فاز وغيره آخرون كثيرون كرموا وفازوا بجوائز ومناصب مبهرة، لكنهم صدموا بواقع مرير وحزين في بلادهم، ولم يتمكنوا من «رد الجميل» لبلادهم كما كانوا يتغنون ويوعدون. هل هم حوربوا من أجل ألا يأتوا «فيتفلسفوا على دماغنا» كما صرح أحد المسؤولين يوما عن «زفة العلماء العرب اللي بره» بعد عودتهم لبلادهم؟ أم أنهم صدموا بالواقع البيروقراطي والفساد الإداري والقنوط النفسي الهائل لدى أعداد غير قليلة من الناس؟

حتما العرب قادرون على تفريخ عباقرة ونجوم. لكن للآن الولادة تستمر في كونها «خارج الرحم»، لأن الرحم العربي لا يزال غير قادر على إتمام الولادة كاملة لقصور في عمليات اللقاح بين التعليم والمجتمع والناس والحكومات.

وفي الختام انتهت السهرة بتعليق من أحد الحضور قال فيه: «الفيمتو الوحيد الذي أعرفه هو عصير أحمر داكن اللون يستهلك بكميات كبيرة خلال شهر رمضان.. ارحمنا يا دكتور زويل»!

[email protected]