أميركا وإيران في الشرق الأوسط والعملية التاريخية المركَّبة

TT

قبل البدء بقراءة ما جرى في طهران بين تركيا والبرازيل من جهة، وإيران من جهة ثانية، يكون علينا أن نستعرض أمرين اثنين: مجريات الأحداث في الشهور الثلاثة الماضية، والأطراف المتحركة على مسرح الأحداث. تسير الولايات المتحدة في منطقتنا منذ بداية أوباما، وإعلاناته في تركيا ومصر وإندونيسيا تجاه العرب والعالم الإسلامي، على ثلاثة خطوط: خط العودة للمسارات التفاوضية في القضيتين الرئيسيتين: فلسطين - إسرائيل، والنووي الإيراني. وخط تدبير الأمور بطريقة مختلفة في العراق وأفغانستان. وخط ضم الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين إلى الجهود الدبلوماسية فيما يتصل بالملفين المذكورين. وباستثناء المسرح الأفغاني والباكستاني؛ فإن السياسة الأوبامية حققت مكاسب ملحوظة. فقد اجتازت اختبار الانتخابات العراقية، وسحبت 80 ألف جندي أميركي من العراق. كما استطاعت جمع المجتمع الدولي للضغط على إسرائيل وإيران في الملفين: ملف السلام الذي ما سارت فيه إسرائيل، والملف النووي الإيراني الذي ما تحقق فيه شيء ظاهر باستثناء التهديد بالعقوبات. والمعروف أن الدبلوماسية الأميركية الأوبامية ما كانت ناعمة، لأنها تدار من جانب العسكريين عمليا: غيتس وزير الدفاع الأميركي، وباتريوس قائد القيادة المركزية الأميركية بالمنطقة. وقد وصل الأمر بغيتس إلى القول إن العقوبات على إيران ليست بداية الطريق، بل هي نهايتها، لأنه لا شيء بعدها غير الحرب. أما باتريوس فقال إن السياسات الإسرائيلية تهدد المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة بالمنطقة.

ولنلق نظرة على الأطراف التي شاركت في «المشهد» في الشهور الماضية، وأوصلت في النهاية قبل أيام إلى بدء المفاوضات غير المباشرة بين إسرائيل والفلسطينيين، وإلى اتفاقية التبادل النووي بين إيران و«المجتمع الدولي». أهم الأطراف - بعد الولايات المتحدة وإيران وإسرائيل - كانت ولا تزال تركيا. فقد تدخلت تركيا عبر غل وأردوغان وأحمد داود أوغلو لدى إيران وسورية وإسرائيل. كما شملت باهتماماتها وآرائها السعودية ومصر وفرنسا وقطر والطرفين الفلسطينيين. ومثلت بالنسبة إلى الجميع دور الساعي للسلام من طريق العدالة والتوازن. وبدا لأول وهلة أن إسرائيل غير راضية عن الدور التركي، ثم جرى تذكيرها بأن تركيا عضو في الأطلسي، وأنها هي التي نظمت - وعبر الأشخاص ذاتهم - المفاوضات غير المباشرة بين إسرائيل وسورية. بيد أن نقطة قوة تركيا كانت ولا تزال قدرتها على ممارسة النفوذ تجاه إيران من موقع الصداقة والملفات المشتركة، وتجاه سورية من موقع الضمان والحماية. وبسبب الحساسية العربية، فقد تقدمت لجنة المتابعة المكونة من وزراء الخارجية العرب لتشكيل سقف للتفاوض بين إسرائيل والفلسطينيين؛ في حين شكلت تركيا المظلة أو الضامن لإيران، بعد أن استطاع الأميركيون محاصرتها في عهد أوباما بالدبلوماسيتين الغليظة والناعمة.

ما هو جوهر المشكلات مع إيران في الملف النووي، وفي الملفات الأخرى؟ يريد الأميركيون من إيران (واستطرادا لجنة الـ5+1) ثلاثة أمور في المجال النووي؛ أولها: إيقاف التخصيب بالداخل الإيراني، وثانيها: الموافقة على التخصيب بالخارج بالحدود التي يسمح بها النووي السلمي، وثالثها: الكشف لوكالة الطاقة الدولية عن تفاصيل «البرنامج» النووي، وتمكينها من زيارة المنشآت كافة. وإيران، ومنذ عام 2004 تنكر أن لديها برنامجا نوويا، كما أنها لا تريد أن توقف التخصيب بالداخل، لأنها فعلت ذلك مرة، وسلمت بتفتيش منشآتها النووية، وما أفاد ذلك شيئا. لكن علينا ونحن نتأمل احتمالات تطور الموقف بين أميركا وإيران أن نلتفت إلى بعض الملاحظات. فالتبادل أو التخصيب في الخارج الذي وافقت عليه إيران مع استبدال تركيا بروسيا هو أصعب الأمور من الناحية الإعلامية والمشهد العام عليها، لأنه الأكثر مساسا بالسيادة.

وأحسب أن المطلبين الآخرين أقل أهمية، إذ لو كان البرنامج النووي سلميا وتقنيا، فالتخصيب في هذه الحدود بالخارج، بغض النظر عن المنظر، مفيد لإيران لهذه الناحية، ولنواح أخرى كثيرة. فمع تسوية مشكلة النووي - إن تمت - تتراجع العقوبات السابقة، وينفتح التعاون الطويل والمفيد لإيران في شتى المجالات الاقتصادية والعلمية والاستراتيجية. فالمنشآت البترولية والغازية بحاجة إلى تطوير، وأسطولها الجو ي بحاجة إلى تطوير، والمستقبل كله متعلق بأوروبا والولايات المتحدة، وليس بشافيز ولا بالبرازيل. ويضاف إلى ذلك ملفات مناطق النفوذ المختلف عليها من العراق وإلى سورية ولبنان وآسيا الوسطى والقوقاز. والطريف أن أكثر هذه الملفات لتركيا أيضا علاقة بها. ولا ننسى أن الرئيس الأسد قال قبل أيام إنه عرض عليه إعادة الجولان فأبى، لأن ما هو في الرهان، أكبر من ذلك! وفي هذا الكلام لفت ظاهر لأميركا وإسرائيل، ولفت باطن لإيران والعرب على حد سواء. فإذا سويت مسائل إيران مع أميركا، لا يظل الرئيس الأسد في عدة أمور مقيد اليدين، ومن ضمن ذلك علاقته المتوترة بأنصار إيران الذين في السلطة بالعراق. وقد لا يعود سلاح حزب الله ضروريا لإيران، وهو الشرط الضروري لكي تقوم بين الأسد والولايات المتحدة علاقات لا تشوبها شوائب بارزة. وكما تستفيد إيران بالعراق، سيستفيد الأسد في هذه الحالة بلبنان ومن لبنان، دون أن يتعرض للاتهام بأنه إنما غادر محور المقاومة أو الممانعة.

ولنلتفت إلى الجبهة الأخرى للتفاوض. فالمفاوضات غير المباشرة بين إسرائيل والفلسطينيين إن بدأت في أجواء انفراج بين أميركا وإيران، ستزداد الضغوط على إسرائيل للتسريع في إقامة الدولة الفلسطينية، إذ لا تعود لديها حجة من أجل شن الحرب هنا أو هناك دفاعا عن أمنها. وقد وصلت الضغوط عليها في المدة الأخيرة، إلى حدود طرح مسألة سلاحها النووي للمرة الأولى، استعدادا لشرق أوسط جديد خال من أسلحة الدمار الشامل بعد حلول السلام.

لقد حققت إيران في عهدي الرئيس بوش عدة إنجازات ما توافرت لها منذ قيام الثورة الإسلامية عام 1979. فقد زال أعداؤها من أفغانستان والعراق، وصار العراق وسورية ولبنان مناطق نفوذ لها. وقد طمحت إلى تتويج ذلك بإنتاج سلاح نووي، كما انتهزت باكستان حقبة الصراع على أفغانستان للغرض ذاته. لكن إيران تعرف ما جرى لباكستان بعد أن داخل الخلل علائقها بالولايات المتحدة، حتى صار النووي عبئا عليها بعد أن كان ميزة وحماية. وقد وصلت الأمور بين إيران والولايات المتحدة الآن إلى الذروة التي يبدأ بعدها العد العكسي، أو تصل إلى استقرار في الداخل وتقدم وإمكانيات نجاح مستقبلي، وعلاقات ودودة وقوية بمنطقتي الشرق الأوسط والخليج. وهكذا فإن «سلميات» الولايات المتحدة في العام ونصف العام الماضيين، والتي انعكست ضغوطا هائلة، هي الوجه الآخر من العملة إذا صح التعبير. وما عاد هناك وقت للإضاعة، لا من جانب الولايات المتحدة، ولا من جانب إيران.

أما إسرائيل، فإنها في أحسن الأحوال، كسبت وقتا في عهدي بوش. لكن الكتاب اليهود المعتدلين من مثل هنري سيغمان وفريدمان، ينكرون عليها حتى ذلك. فلو أن الإسرائيليين عملوا على السلام أيام خارطة الطريق، وعندما كان جانبهم قويا ومعافى نسبيا أيام شارون، لما اضطروا اليوم إلى وضع علاقاتهم بالولايات المتحدة، وبالغرب كله على المحك. وحرب عام 2006 بين إسرائيل وحزب الله، هي درس لكل من إسرائيل وإيران (وربما سورية). إيران أثبتت أنها تستطيع إزعاج إسرائيل والولايات المتحدة، لكن تلك هي الحدود، وما غير ذلك شيئا في الملفات الاستراتيجية بالمنطقة، ولا زاد من نفوذها في المدى المتوسط، وها هو النفوذ كله يتأرجح مرة أخرى بين تركيا وسورية. وإسرائيل ثبت أنها لا تستطيع تحقيق انتصار ساحق حتى في مواجهة تنظيم مسلح محدود القدرات بالمقاييس العسكرية الاستراتيجية. بيد أن الذي ثبت أكثر أن الانتصار العسكري - حتى إن كان - فإنه لا يزيدها أمنا، ولا يغير شيئا في مواجهة الخمسة ملايين فلسطيني، وإن يكونوا مجردين من السلاح.

ما هي احتمالات هذا الموقف المركب والمعقد إذن؟

تستطيع الجمهورية الإسلامية، نظريا، أن تعتبر اتفاقية التبادل هذه نهاية المطاف، فلا توافق على بقية الشروط، ولا تسعى للحصول على الميزات، لأنها لا تعتبرها كافية مثلا. لكنها في هذه الحالة، إن لم تواجه العقوبات والحرب؛ فإنها ستواجه حالة من تأكل النفوذ، ومن اضطرار سورية إلى الاستمرار في التحول، وازدياد المتاعب في العراق، فضلا عن سوء الأوضاع الداخلية نتيجة الحصار المتمادي.

وتستطيع إسرائيل نظريا أيضا، أن ترفض عمليا حل الدولتين، فتفشل المفاوضات، ويتحول العرب إلى مجلس الأمن، ويضطر الأميركيون والأوروبيون والروس إلى الوقوف على الحياد، إن لم يستطيعوا الوقوف في وجهها بسبب النفوذ اليهودي في البرلمانات ووسائل الإعلام. وأقل ما ستواجهه في هذه الحالة: العزلة الدولية، وانتشار الفوضى والثوران في الضفة وغزة، إن لم يحدث ما هو أكثر من ذلك.

لا مهرب إذن لكل من إيران وإسرائيل إن لم تدخلا في «السلم الأميركي» إلا الحروب الصغيرة أو الشاملة، التي لا تحل المشكلات ولا تؤجلها هذه المرة. إنه السلام المفروض إذن، والذي لا يرضي الطرفين، لكن لا بديل عنه. أما الكاسب حتى الآن فهو تركيا، ولا أحد غير الأتراك. ولست من أنصار اعتبارهم عثمانيين جددا، لأن الظروف مختلفة اختلافا شاسعا. لكن في عهود العثمانيين القدامى، وفيما بين فتح القسطنطينية عام 1453 وسبعينات القرن التاسع عشر، كان كل تمرد أو ثورة، ينتهي بالقائمين عليها إلى إسطنبول أحياء أسرى، أو معلقين على أعواد المشانق! والطريف والمؤسي في هذا المشهد «التاريخي»، أن الأتراك والإيرانيين والذين ظلوا مصرين (في التاريخ) على أن ينفي أحدهما الآخر من هذه المنطقة؛ يريدون هذه المرة الحضور معا. وكان الإيرانيون هذه المرة (والتاريخ لا يعيد نفسه) هم الذين أعادوا خصومهم التاريخيين إلى منطقة المشرق العربي بعد أن غادروها منهزمين عام 1918! أولم يكن ابن خلدون يكرر في مقدمته في كل مرة يتحدث فيها عن انقلاب تاريخي، الآية القرآنية: «وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ»؟!