3 حناجر و100 صوت!

TT

كنت مارا بإحدى الساحات الخالية في مدينة سعودية، فسمعت ضجيجا عاليا بمكبرات الصوت، وأحدهم يصيح: انضموا إلينا، قف يا صاحب السيارة التويوتا، وأنت يا صاحب السيارة الزرقاء، حياكم الله..

كان يتكلم بدون توقف، حتى تخيلت أنه يملك ثلاث حناجر صوتية تتعاقب على الكلام، مثل سباقات التتابع في ألعاب القوى. لم يخطر ببالي إلا أنه رجل يسوق بضاعة ما، أو أنه مهرجان تسوق، وصاحب الحناجر الثلاث هو الذي ينبه المارة وأصحاب السيارات (الزبائن). رغم أن ذلك أسلوب مزعج وفيه اعتداء على أسماع الآخرين. فيه عنف صوتي مقتحم لدائرة قطرها عدة كيلومترات من المناطق المحيطة.

«كنت أظن.. وكنت أظن.. وخاب ظني». فبعدما ركزت قليلا، قليلا وليس كثيرا، تبين لي أن الرجل يدعو الجميع إلى كلمات وعظية وإرشادات أخلاقية ولكن بطريقة مهرجانية، تراعي طبيعة وثقافة الجمهور المستهدف من خلال التركيز على مفردات الكرم والترحيب الحار، بما يبعث لدى المتلقي شعورا بأنه في حفلة عرس وليس في مهرجان وعظي، يتكلم عن فساد العصر والمنكرات.

من حق الإنسان أن يدعو للأخلاق الفاضلة، حسب رؤيته لها، ومن أبسط حقوق الداعية أن يبشر بذلك، ولكن هذه الطريقة فيها نوع من الاعتداء على الحيز الخاص لكل من قدر له أن يسكن بجوار هذه الحفلة الصاخبة.

الأمر لا يقتصر على صاحبنا ثلاثي الحناجر، فـ«الحالة عامة»، كما قال عادل إمام في فيلم «النوم في العسل». افتح التلفزيون، وتفرج على عشرات القنوات الفضائية الدينية، نستثني قنوات البث القرآني الصِّرف منها، وقد جربت أنا ذلك، فتنقلت بين بضع قنوات سنية سلفية، وسنية صوفية، وقنوات شيعية، فيها الصاخب وفيها الهادئ، ثم قنوات مسيحية عربية، من قبطية إلى غيرها، وقنوات لطوائف أخرى، كلها تبشر بذات الطريقة التأثيرية، ونفس الأدوات القائمة على التقرب للمشاهد من خلال تبسيط اللغة واعتماد أساليب التأثير الخطابية المعروفة (حركة على المسرح، تغيير تعبيرات الوجه، التحكم بطبقات الصوت..الخ) مع اختلاف المبشر به، حسب انتماء الواعظ الديني والطائفي.

هناك حالة انفجار في الفضائيات الدينية الموجهة للمشاهد العربي. وبحسب التقرير السنوي للجنة العليا للتنسيق بين القنوات الفضائية العربية بلغ عدد القنوات الدينية والعقائدية 39 قناة، بينما ذكرت تقارير أخرى أرقاما أكبر، تشير إلى أنه بلغ عدد القنوات المسيحية 10 منذ 1996، وهو بداية انطلاق القنوات المسيحية بقناة «سات 7» أول فضائية مسيحية في الشرق الأوسط، بينما كان عدد القنوات الدينية الإسلامية 71 شاملة كل الطوائف الإسلامية.

وإذا ما جمعنا بين الرقمين، وحذفنا بعض الزوائد، نخرج بـ100 قناة دينية تقريبا، أي 100 صوت يتكلمون في ذات الوقت!

أظن أن هذا الأمر فيه «تسليع» للدين وتحويل المحتوى الروحاني والأخلاقي المقدس إلى محتوى يسوق بنفس طريقة التسويق لأي سلعة أخرى.

الأخلاق والمثل العليا لا تحتاج إلى هذه المهرجانات والقنوات المتزاحمة، فقليل نافع خير من كثير ضار، والنور لا يحتاج إلى صوت يشير إليه، يكفي أن يضيء فقط!

[email protected]