ألف هلّولة وهلّولة

TT

في هلّولة تعديل مناهج التعليم، التي اجتاحتنا ولا تزال، خرّط عدد من اللادينيين على قلوبنا الكثير من البصل الذي كان قوامه زعمهم «اندساس» آيات من القرآن الكريم في نصوص اللغة العربية يجب أن يتم حذفها. وأسّس القائلون بهذا فتواهم على منطق يدّعي وجود آيات «طيبة» ممكن الموافقة عليها وآيات «غير ذلك» يجب «حذفها»، وقيل هذا الكلام بالفم المليان وبالنشر المتسع، الذي لا شك أنه يشهد على المدى الواسع لاحترام حرية الرأي مهما نطح وشطح في الخطوط الحمراء. وكان الدرس المستفاد هو أن اللادينيين لا يخشون في باطلهم لومة لائم ولو كان اللائم مؤمنا يعلم حق العلم النص القرآني في سورة الأعراف / آية 2: «كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ».

وتوافق أن تقدم مجموعة من المحامين بدعوى أمام القضاء لمنع وزارة الثقافة من إعادة طبع كتاب «ألف ليلة وليلة»، وأسسوا اعتراضهم على تصورهم بأن فعل وزارة الثقافة يشكّل استغلالا لأموال الشعب المصري، دافع الضرائب، وإهدارها في ما يعود عليه بالضرر، إذ أن هذا الكتاب فيه الكثير من البذاءة والركاكة والألفاظ الخادشة للحياء العام. وجهة نظر يمكن مناقشتها أمام القضاء، وهي، وإن لم نؤيدها، تدخل في سياق حرية الرأي الأقل تجاوزا من مطالبات حذف آيات القرآن الكريمة من نصوص مناهج اللغة العربية، لكن لله في ذلك حكمة، إذ يشاء السميع العليم أن يكشف المطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون. فما إن جاء الخبر بدعوى طلب منع حضرة كتاب «ألف ليلة وليلة»، الذي ما زال مجرد مطالبة لم يبتّ فيها بعد، حتى هبت، من بين صفوف المطالبين بحذف آيات الله وجعل القرآن عضين، ألف هلّولة وهلّولة بزعيق «لا للمساس بالتراث المقدس وكبرياء الثقافة والحضارة»... إلى آخر أهازيج وأناشيد جماعات التبوير المحفوظة، حد الملل بلا أي تجديد، وكانت المَنَطّ المناسب للقفز ومواصلة التحرش بالدين والتدين، الذي لا يبدو له انقطاع، تبدأه قيادات التبوير ثم يستلمه صبيتهم، من رعاع الكتابة بالسنج والمطاوي، يفرشون أوراق الصحف يسيئون فيها الأدب، يرهبون بكل أنواع الأذى كل من تسول له نفسه الزج بنفسه لكشف المغالطات والخلط والتخليط في مهاتراتهم ولو بقول: «اتقوا الله».

لدي نسخة من كتاب «ألف ليلة وليلة» من المبتدأ إلى المنتهى، طبعته دار الكتب والوثائق المصرية، سلسلة نوادر المطبوعات، سنة 1998 في 6 مجلدات طبعة ممتازة (مصورة عن طبعة برسلاو بتصحيح مكسيميليانوس بن هابخط، سنة 1825)، وهي نسخة ضرورية لمكتبتي للدراسة والعلم وليس للمتعة بأي حال، فأسلوبها عامّي سقيم، في لفظه وتراكيبه. تراث نعم، ولكنه لم يصلح للإمتاع إلا بعد غربلته من الشوائب والتقاطه من الانحطاط المؤذي لصاحب الحياء، مثلما تحقق في محاولة الأديب الذواقة طاهر أبو فاشا الذي قدم نصه المتألق للإذاعي العبقري الرائد محمد محمود شعبان فأخرجه للإذاعة المصرية منذ ما يقرب من نصف قرن في حلقات تعدت الألف بالفعل، وأصبحت تلك الحلقات بمقدمتها الموسيقية وغناء المجموعة «ألف ليلة وليلة، كل ليلة ليلة، ألف ليلة وليلاااه» هي ما يربط الناس وجدانيا بهذا التراث بعد أن تعفف وتنظف وسمح له بدخول البيوت ليسمعه الكبير والصغير من دون حرج. وأن تكون هناك طبعة أصلية لكتاب «ألف ليلة وليلة»، بمثابة مادة خام للدارسين والباحثين والمنتجين لفن الكتابة، هذا من الأمور الثقافية المقبولة التي نرد بها على المطالبين بمنعها، وهي غير محتاجة إلى جهدهم في المنع فهي ممتنعة بطبيعتها، فأين هو هذا القارئ الذي يملك صبر قراءتها بكل عبلها وسماجتها المُعيقة للابتلاع السهل؟

زوبعة في فنجان لم يكن لها أي ضرورة من المبتدأ إلى المنتهى، ولم نجنِ منها سوى هلّولة تافهة، مضافة إلى ألف هلّولة وهلّولة يصخب بها التبويريون ويملأون بإزعاجاتهم ساحتنا الثقافية العليلة!