«تعظيم سلام» لعمتي الشجرة

TT

أثناء تجوالي في نيويورك مع صديق عربي يحمل الجنسية الأميركية، لفتت نظري شجرة ضخمة وميتة تتدلى من أغصانها اليابسة بعض الأشياء المختلفة، وعندما لاحظ استغرابي لهذا المشهد حدثني عن تاريخ تلك الشجرة قائلا:

«في عام 1919، هاجر رالف ناشي (61 سنة) وزوجته إيلين إلى نيويورك قادمين من بلدتهما أوسلو بالنرويج، وأحب الاثنان مدينتهما الجديدة حبا جما، وعندما أصبح رالف حارسا لهذه العمارة التي نقف تحتها لاحظ أن هذه الشجرة المسكينة التي أمامنا أسيرة وسط كتلة من الإسمنت، فأدرك أنها تحتضر، ومن ثم فقد أحضر فأسا وحفر الأرض المحيطة بها، ووضع فيها بعض الأسمدة ورواها بالماء، ثم أقام حولها سورا لحمايتها.

وعاشت الشجرة وبدأت تزدهي، لكن لم تكن هناك أي طيور تأتي إلى هذا الجزء من الشارع، فاشترى رالف عددا من الطيور الصغيرة المحنطة، وربطها فوق أغصان الشجرة، ثم صنع بيتا للعصافير طلاه باللونين الأبيض والأخضر، ووضعه هو أيضا في أعلى الشجرة. ووضع فيما بعد بعض ثمار الفاكهة الصناعية، وكان يربط بعض الزهور أحيانا على الأغصان.. ولكي يحتفل بمهرجان حصاد الخريف ربط بعض ثمار الموز الحقيقية في الشجرة، فقطفها المارة وأكلوا بعضها، فاشترى رالف كمية أخرى.

ومرت الأعوام، وبعد أن كان حارسا لهذه العمارة أصبح يملك العشرات من أمثالها، غير أنه أدرك أن العمر مهما طال به وطال بمحبوبته الشجرة هذه فهو قصير، لهذا أراد أن يخلد نفسه ويخلدها بطريقته الخاصة، فاشترط على البلدية لقاء تبرعاته الخيرية ألا تعبث أو تقتلع الشجرة من مكانها حتى لو ماتت، وهذا ما وقعهم عليه في مكتب للمحاماة، وماتت الشجرة قبل أن يموت هو، ولأنه توقع ذلك فقد استبق موتها وشتل منها أو من حبوبها المتساقطة مجموعة من الشتلات وراح يغرسها في أرض فسيحة كان قد اشتراها، وأصبحت اليوم غابة وحديقة عامة مفتوحة لكل العائلات، وأوصى بأن يكون قبره في وسطها وهذا ما حصل، وأوقف ربع أملاكه للحفاظ على تلك الغابة وتنميتها من شتلات هذه الأم التي تراها واقفة أمامك الآن وهي تبتسم رغم أنها ميتة.

واستحدثت بلدية نيويورك فيما بعد تقليدا جديدا أعطى لهذه الشجرة قيمة وميزة أخرى، ففي كل عام عندما تعقد الجمعية العامة للأمم المتحدة اجتماعها، يأتي مندوب رسمي من الهيئة ليعلق على أغصانها جميع أعلام دول العالم، وتظل ترفرف طوال أيام المؤتمر، واليوم يزورها عشرات الآلاف من السياح ويلتقطون الصور أمامها، بل إن بعض العشاق يكتبون أسماءهم على جذعها الضخم، ورغم أنني لست من فصيلة العشاق، فإنني مع ذلك كتبت اسمي وحشرته بينهم».

وعندما انتهى من كلامه لم أملك إلا أن أنتصب كالعسكري وأشد من قامتي وأرفع يدي اليمنى وأضرب «تعظيم سلام» لعمتي الشجرة، ولم أنس أن أترحم على روح «رالف ناشي»، فهل كان ذلك الرجل غريب الأطوار!

[email protected]