تغيير.. سمعونا!

TT

اعتبر الشارع الشعبي في مصر أن بيع سلسلة محلات «عمر أفندي» للتجزئة لمستثمر «خليجي» أم الجرائم وخلاصا من التراث المصري، بعد أن ساهمت في شحن وتأجيج الذهنية التآمرية بعض الأقلام الضعيفة في مطبوعات صفراء، وقبلها اتهم التلفزيون المصري حينما باع الأفلام المصرية والمسلسلات والمسرحيات لمستثمرين خليجيين بأنه يرتكب كبرى الكوارث ويبيع تاريخ مصر.

وانطلقت وسائل الإعلام تشن حملات غريبة على المستثمرين الخليجيين متناسين أن هناك طرفا قد باع، وأن الخليجيين لم يقوموا بسرقة أو خطف تلك الأفلام والمحلات في ليل أظلم! وبالطبع هناك من سيقول إن هناك سقفا هائلا من الحرية الإعلامية الجديدة في مصر، وإن الحكومة المصرية نفسها بكل رموزها تتعرض لشتى أنواع النقد. هذا صحيح ولا خلاف فيه، ولكن الحديث يكون مختلفا حين يكون الناقد هنا هو إصدارات صحافية من قبل القطاع العام، مثل روزاليوسف مثلا، فكيف تتحدث الحكومة بلسانين في الوقت نفسه؛ لسان يشجع الاستثمار وخصخصة القطاع العام، وآخر يتهم ويشكك ويحارب المستثمر!

وضع غير مفهوم، محولا «الاعتداء» على «عمر أفندي»، كما صور في الإعلان، كأنه اعتداء على عمر الشريف نفسه! وهذا يدخلنا في مسألة يواجهها العالم في أكثر من موقع، وهو الصراع على الكعكة الاقتصادية بين القطاع العام والقطاع الخاص، فالخطوط والحدود آخذة في الاختفاء لرسم نقاط التماس بين الاثنين!

واليوم ها هي أميركا «بجلالة قدرها» تتحول من رأسمالية متوحشة إلى اشتراكية خجولة، فتقوم الحكومة فيها بتملك أكبر شركات صناعة السيارات والتمويل العقاري وشركات التأمين والمصارف التجارية في واحدة من أغرب نقاط التحول السياسي والاقتصادي، وبالتالي الاجتماعي في التاريخ المعاصر، وهي مسألة لا تزال تصيب شريحة كبيرة من الشعب الأميركي بالذهول والصدمة في آن واحد.

ولكن المثال الصارخ على تضارب «الأدوار» هو ما يحدث في الصين التي تحكم رسميا من قبل الحزب الشيوعي، ولكنها فعليا هي رأسمالية حتى النخاع وكبرى شركاتها في مجالات الاتصالات والسيارات والطائرات والإلكترونيات والنفط وغيرها هي شركات مملوكة للدولة رسميا. وهذا هو الذي سيدفع الشركات الغربية إلى «الجنون». فهم يريدون «جنة» السوق الصينية الواعدة بأعدادها المهولة والنمو المغري في نسبة الاستهلاك هناك، ولكنهم يخشون «نار» التدخل الحكومي المباشر والمنافسة والتحكم من قبل الدولة، كما حدث مؤخرا مع شركتي «ياهو» و«غوغل». والشركات الغربية تعتقد أن هذا الوضع غير عادل، فالشركات لا يمكن أن تنافس سيادة الدولة مهما بلغت قوة هذه الشركات، وهم يتعاملون اليوم مع الدولة صاحبة ثاني أكبر اقتصاد في العالم وبنسب نمو متزايدة! وهناك المثل اللافت الآخر الذي يحدث في فنزويلا، وهي الدولة التي حول رئيسها هوغو تشافيز شركة البترول الحكومية إلى «أداة» للتوسع والتملك الرأسمالي وتحقيق نفوذ سياسي واجتماعي مؤثر. إنها إعادة تكوين وإعادة هندسة لنماذج اقتصادية تقليدية ولكن برؤى وشكل عصري باهر.

النموذج الرأسمالي القديم الذي لم يعد صالحا نظرا إلى تكلفته الاجتماعية الباهظة واليسارية الموغلة وهم أثبت فشله، وفي منطقة جديدة في الوسط يستفيق الناس مكتشفين أن هناك وسطية حتى في الاقتصاد. وفي العالم العربي يتابع الناس تحول مصر من رأسمالية إلى اشتراكية إلى قطاع عام بحت، ثم إلى خلاص من تملك الدولة. وسورية والعراق والسودان والجزائر والمغرب وليبيا واليمن جميعها تعيش تجارب متشابهة، ويبقى التحدي هو عدم التشكيك في المشتري ولا تخوين البائع، فالاثنان في قارب مشترك اسمه تنمية البلاد. يتحقق ذلك بسوية إذا ما حسنت النيات ودعمت بشفافية وقضاء عادل ومستقل.

[email protected]