النوم والتنويم بين الفكر الشعبي والإعلام السياسي

TT

النوم في صورته الجميلة لخصتها أغنية قديمة جدا للسيدة أم كلثوم تقول: «النوم يداعب عيون حبيبي - والسهد شاغل جفوني» هكذا نرى شخصا على وشك النوم، بينما يوجد إلى جواره شخص محب يقظ للغاية. وتمضي الأغنية إلى أن تصل إلى مقطع يقول: «نام يا حبيب الروح - الليل بطوله سهران عليك». وبذلك نعرف أن «السهد» أو اليقظة من وجهة نظر الأغنية الشعبية الهدف منه عند الشخص الساهر، هو حماية النائم. غير أن الفكر الشعبي يبتعد فجأة آلاف الأميال عن هذه الصورة اللطيفة ليواجهنا بمقولة عنيفة ومتناقضة وربما غير مفهومة في تعريفه لنوع مختلف من النوم، وذلك عندما يقول واصفا موقفا بين طرفين. «قال له: نام.. لما أدبحك.. فقال: ده شيء يطيّر النوم».

في كلمات قليلة للغاية استطاع المثل الشعبي هنا أن يلقي بأكبر كمية من الضوء على أشد أنواع السلوك البشري غموضا وعدوانا، وهو أن يطلب منك شخص أن تنام (أن تفقد وعيك) لكي يتسنى له القضاء عليك. وهو ما سنجد له سندا في لغة التخاطب اليومي، من الشائع أن تسمع شخصا يقول: «فلما جاءني فلان.. أخذته على حجري ونيّمته إلى أن حدث كذا» أو «لقد ذهبت إلى فلان فنيّمني إلى أن حدث كذا». في المثال الأول، يتعامل معك هذا النوع من الأشخاص بوصفك طفلا لم ينضج الوعي عندك بعد، فأنت لا تستطيع أن تأخذ شخصا على حجرك إلا إذا كان طفلا. الواقع أن صاحب الأفكار المتطرفة بوجه عام يتعامل معك على أنك ناقص العقل والأهلية، ولذلك هو قادر على خداعك. ما نستخلصه من المثل الشعبي بشكل مؤكد هو أن هناك من سيطلب منك بشكل لطيف أن تنام تمهيدا للقضاء عليك. ولعل أكثر الأمثلة على صدق وصحة هذا المثل الشعبي هو ما كتبه السيد شاكر كسرائي في مقاله (جريدة «الشرق الأوسط» في 15 مايو/أيار 2010) الذي لجأ فيه إلى نوع من التنويم الإعلامي يشبه إلى حد بعيد التنويم المغناطيسي، والفرق الوحيد بين النوعين هو أن الشخص المنوَّم مغناطيسيا يوافق ويرغب أصلا بدافع من إحساسه بالقلق والتوتر في النوم لأهداف علاجية، وإن كانت هناك استثناءات شاهدنا فيها في أربعينات القرن الماضي أفلاما كثيرة عن شخص تم تنويمه مغناطيسيا ثم الإيحاء إليه بفعل أشياء ضارة بالآخرين من المستحيل أن يقوم بها وهو في كامل وعيه. الواقع أن تلك الفكرة تمثل خطأ شائعا، فالشخص المنوَّم يستيقظ على الفور عندما تطلب منه شيئا يرفضه اللاوعي.

المقال كله ليس أكثر من جلسة تنويم سياسي إعلامي يتصور فيها كاتبه أن القراء على درجة عليا من السذاجة بحيث تجوز عليهم كلماته التي امتلأت براءة ودهشة وحنانا: «نم يا حبيب الروح، الليل بطوله إيران ساهرة عليك»، نم مطمئنا هادئا آمنا فحكومة أحمدي نجاد ساهرة على حمايتك. هل تتصور أننا نريد القنبلة الذرية لحمايتنا أو لتهديد الآخرين؟ نحن نريدها لحمايتك أنت وحماية بلادك.. هل تصدق ما يقوله الإعلام الغربي والإسرائيلي عنا؟ هل نسيت أنهم أعداؤك وأعداؤنا؟ «نم يا حبيب الروح.. الليل بطوله سهران عليك».. هل تتصور أن مناورات الحرس الثوري البحرية لتهديدك أنت..؟ يا لقسوة وظلم الأحباء عندما لا يقدرون نياتنا الحسنة.. الجزر العربية؟ تقول عنها إنها احتلال؟ عيب.. عيب.. انسَ.. نحن إخوة مسلمون.. أرضك هي أرضي وأرضي هي أرضك.. اتفضل احتل أي حتة عندنا.. لا تنشغل بذلك ونم.. نم يا حبيب الروح.. أنصفونا يا إخوتنا الصحافيين العرب، يا من تغمضون أعينكم وتكتبون كل شيء ضد إيران، كأن الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد أصبح العدو رقم واحد للعرب، أو كأنه أكثر عداء للعرب من نتنياهو، بينما مواقفه من إسرائيل واضحة جلية وتتردد ليل نهار في وسائل الإعلام العالمية.. والآن بعد أن أوضحت لك ما كان خافيا عليك.. اتفضل.. استغرق في النوم.

يقول الأستاذ شاكر: «عجيب أمر البعض الذين يعتبرون جهود إيران للحصول على التقنية النووية موجهة ضد العرب كما تزعم وسائل الإعلام الأميركية والإسرائيلية، فإذا كانت جهود إيران للحصول علي التقنية النووية أمرا غير مرغوب فيه، فلماذا يقوم إخواننا العرب بعقد اتفاقيات مع الغرب لبناء مفاعلات نووية بعشرات المليارات من الدولارات؟ أنتم تستنكرون فعلة إيران ولا تستنكرون رغبة الدول العربية لاقتناء التكنولوجيا النووية».

كل العناصر التي عرضها المقال ليست فقط عاجزة عن تنويم طفل واحد، بل هي أيضا قادرة على إيقاظ الموتى في القبور. ما بالضبط مواقف السيد أحمدي نجاد من إسرائيل التي تصفها بأنها واضحة جلية تتردد ليل نهار في وسائل الإعلام العالمية؟ الموقف السياسي هو ذلك الفعل القادر على خلق واقع سياسي جديد قابل للنمو والازدهار. أما الكلمات مهما بلغت بلاغتها فهي تظل كلمات، والمؤسف في حال السيد نجاد أن كلماته التي يعلن فيها في معظم خطاباته تحديه للغرب و«رغبته» و«تمنيه» زوال إسرائيل، كانت لها نتيجة واحدة، هي أن رجال السياسة في الغرب والشرق أخذوا تهديداته غير الجادة على محمل الجد، فترتب على ذلك المزيد من الدعم لإسرائيل والتصميم أكثر وأكثر على حصار إيران.

وبالمناسبة، كاتب هذه السطور ضد فرض أي عقوبات اقتصادية على الشعب الإيراني، وقد أعلنت ذلك على صفحات هذه الجريدة وبعدها أعلن نفس الرأي، السيد أبو الحسن بنو صدر رئيس جمهوريتكم الأسبق. هكذا ترى أن الكُتّاب العرب لا يكتبون عن إيران بعد أن يغمضوا أعينهم، كما أنهم ليسوا ضد الشعب الإيراني، بل إن أعينهم مفتوحة لدرجة أن بعضهم يرى بوضوح أن المستفيد الوحيد من الحصار سيكون هو القيادة السياسية في إيران لأن الحكم الثوري المتطرف طبقا للتجارب المعاصرة والقديمة يرحب بالمزيد من التعاسة للجماعة التي يحكمها.

كما أن أحدا منا لم يقل إن جهود إيران للحصول على التقنية النووية أمر غير مرغوب فيه، هذا حق لإيران وهو أيضا حق لكل دولة على وجه الأرض، بشرط أن يتأكد سكان الأرض من استخدامها لأهداف مدنية سلمية، وهو الأمر المنوط بالوكالة الدولية للطاقة الذرية. أليس هذا بالضبط ما قاله وزير خارجية تركيا عقب الصفقة الأخيرة بين إيران والبرازيل وتركيا، تلك الصفقة الهشة الغامضة المعقدة التي لا يفهمها أحد، والتي هي أصلا ليست ملزمة لأحد طبقا للقوانين الدولية؟ المعادلة بسيطة للغاية: عندما تتوفر النيات الحسنة، من حق إيران أن تستخدم الطاقة النووية ومن حق دول العالم أيضا أن «يثق» في صدق نياتها بخصوص ذلك، ما الصعب في فهم ذلك؟

يا عزيزي الأستاذ شاكر، بكل إيحاءاتك اللطيفة المتسائلة في دهشة بريئة، عجزت عن دفع النوم لمداعبة عيوني، بل طار بعيدا عني، ربما لأنني محصن ضد التنويم المغناطيسي الإعلامي.