عالم آخر

TT

من أعجب مخلوقات الله على الأرض بعد الإنسان «النمل»، إن له عالمه المذهل المتشابك، ولم يكتشف أبعاده وحقائقه سوى العلماء في العصور الحديثة.

إذن لم يكن غريبا أن تحذر نملة صغيرة بني جنسها ليدخلوا في جحورهم لكي لا يحطمنهم سليمان وجنوده. ومن معرفتي وسماعي وقراءاتي عن هذا الكائن المتفرد تأكدت أنه يتشابه مع الإنسان في كثير من السلوكيات والقيم وتقدير الأمور أكثر من أي كائن آخر، فهو ينقسم إلى أنواع وأحجام وألوان وقدرات ومهمات، وكل نوع عليه أن يقوم بما هو موكل إليه دون أي انحرافات.

فهناك مثلا النمل «النجار» وهو كبير وبطيء الحركة ووظيفته أن يسطو على خشب المنازل مثلما يفعل النمل الأبيض، ولكنه غير مدمر، فاختياراته انتقائية، فهو لا يختار الأخشاب إلا ما يفيد جماعته. وهناك النمل «الحصاد» الذي وظيفته أن يجمع البذور ويخزنها ويدخرها لموسم الشتاء.

وهناك سلالات أطلق عليها اسم «البقرات أو الحلابات» وهي تمتص عصارة النباتات طوال النهار، وعندما تعود يقوم النمل الآخر المجهد من كثرة العمل بحلبها - أي بامتصاص العصارة الحلوة التي تختزنها - ومثلما هو عالم الإنسان فيه الطيب وفيه الخبيث، كذلك هو عالم النمل، فليس الكل أتقياء، ولكن فيها من يسمى بـ«البهلوان» وهو لا دور له سوى الرقص والحركات وكأنه يسلي الآخرين، وهناك النمل «اللص» الذي يسرق، والنمل «الخطاف» الذي يخطف الصغار ويربيها كعبيد.

وهناك النمل «الرحالة» المكتشف الذي يجوب الأماكن وإذا اهتدى إلى منطقة خصبة رجع وأخبر قومه، وأحيانا يضطر إذا كانت المسافة بعيدة أن يمتطي ظهر حصان أو بغل أو إنسان، ويعود بنفس الوسيلة، وكثيرا ما ركب السفن وذهب إلى جزر بعيدة ورجع بالأخبار، وهذا ما لمسه أحد العلماء عندما وجد بعض النملات بإحدى الجزر الخصبة، وعادت بعضها معه بعد وقت إلى المكان الذي أقلعت السفينة منه، وعندما قرر على سبيل التجربة الذهاب مرة أخرى إلى نفس الجزيرة وإذا بأعداد هائلة من النمل قد ركبت السفينة، وبعد أن وصلت بدأت الأفواج تنزل، وقبل أن يكتمل نزولها أقلعت السفينة فجأة وذهبت وتوقفت في جزيرة أخرى قاحلة، والغريب أن النملات الباقيات حرنت ولم تنزل نملة واحدة منها، بعدها تيقن العلماء أن للنمل عقلا يفهم ويميز بين ما ينفع وما يضر.

وأكثر النمل نشاطا هو نمل «المظلات» الذي تشاهد كل واحدة منه وهي تحمل فوق رأسها قطعة ورق خضراء أكبر منها عشر مرات، وقد أكد عالم الطبيعة توماس بلت عام 1874: أن النمل لا يأكل ذلك، ولكنه يفرمه ويحوله إلى سماد يزرع عليه بعض الفطريات التي تكون غذاء جيدا للمجموعة، ويخصص لكل مجموعة كمية من الطعام، فبعضه يأكل قليلا ليظل حجمه صغيرا وهو ما يسمى بـ«الشغالات» وهي تخدم بالمزارع وترعى الصغار، وبقدر أكبر تحظى طبقات «الفرسان» بكمية جيدة، وهي الطبقة المقاتلة التي تحمي الجميع، ولكن مع الوقت يسمن الواحد منها ويعجز حتى عن إطعام نفسه، فيقوم العبيد بوضع الطعام داخل فمه، أما الكمية المميزة فتكون «للأميرات العذارى» و«الذكور العاطلين»، وما هو إلا وقت قصير حتى تنمو لها جميعا أجنحة، فتطير يلاحق بعضها البعض، إلى أن يتم التلقيح، عندها سرعان ما يتساقط الذكور الواحد تلو الآخر ويموتون - وهذه هي المأساة الوحيدة – والحمد لله أنني لم أكن ذكر نمل.

وتنزل الأميرات بعدها على الأرض بهدوء، وتنزع كل واحدة منها أجنحتها كما لو أنها حورية أو عروس بحر قررت أن تصبح إنسية، وتبدأ في حياتها مرحلة جديدة عندما تتحول هي إلى «ملكة» وظيفتها وضع البيض، وتعيش بقية حياتها معززة مكرمة، تخدمها الشغالات، ويفتديها الجنود بأرواحهم.

[email protected]