خطر الاستقواء بأميركا على مصر

TT

عيب كبير أن تنتقل المعارضة المصرية إلى نيويورك وتكساس للاستقواء بأميركا، وللترويج لما سيطلق عليه قريبا من المتربصين «أزمة الحكم في مصر». نحن الآن في وضع داخلي وإقليمي حرج لا بد من التعامل معه بحساسية عالية. أعرف أن لكثير من المصريين ملاحظات على النظام الحاكم في مصر، ولكن أيا كانت هذه الملاحظات، وأنا هنا لا أتحدث عن مصر وحدها، فلا يجب تدويل الأمر، ولا يجب أن نخلط بين أمور تكتيكية وضغائن صغيرة، وأمور استراتيجية تمس الأمن والاستقرار في بلد فيه ثمانون مليون مواطن، لو اهتز أمنهم أثر ذلك على أمن المنطقة برمتها. ودعني للحظة أتحدث كمواطن عادي لا كأستاذ للعلوم السياسية يستطيع أن يكتب عن الأمر بأسلوب أفضل وأكثر تعقيدا، فالحديث كمواطن عادي يجعلني مجرد مشارك، كلامه يقبل الأخذ والرد، لا كلام خبراء. مهم أن يعرف من سافروا إلى أميركا، أن المواطن العادي الذي قابلته في مصر يرى في مسألة الاستقواء بأميركا في هذه اللحظة أمرا منافيا للذوق العام، وتبرير المواطن العادي لذلك بسيط؛ إذ قال لي أحد المصريين العاملين في مقهى الفندق: «عيب نعمل كده في ظرف الرئيس كان فيه مريضا، لو كان هذا داخل أي بيت، فلا يتقاسم الناس التركة والأب مريض. إحنا كده بِنْفَوِّل عليه». و«يِفَوَّل عليه» في اللهجة المصرية هو أن يكون الحديث فأل شؤم. المواطن العادي البسيط يرى في سلوك التحالف المصري ومؤتمراته المقامة في أميركا سلوكا غير مقبول من زاوية الذوق الاجتماعي لا زاوية السياسة، وهنا مربط الفرس.

أما النقطة الثانية التي سمعتها من المواطنين المصريين العاديين في القاهرة وفي الصعيد، فهي تتعلق بما حدث من المعارضة العراقية واستقوائها بالخارج الذي أدى إلى خراب البصرة والعراق كله، حيث يرى أحد المواطنين: «أيا كانت الديمقراطية القادمة في العراق، فثمن الاحتلال وما تلاه من موت كان ثمنا كبيرا دفعه العراقيون من دمائهم، ونحن لا نريد أن ندفع الثمن ذاته. إحنا كده أحسن ميت مرة». بالضبط، المصريون أفضل الآن مائة مرة من العراقيين، فلا إرهاب ولا تفجيرات ولا قتل في القاهرة، يمكن السهر والسير في عاصمة مصر حتى مطلع الفجر وأنت في أمان تام، قمة ما يمكن أن يحدث لك هو أن ينصب عليك سائق التاكسي في عشرة جنيهات زيادة على الأجرة لو كنت تود الوصول إلى بيتك في وقت متأخر.

ما قاله المصريون الذين سافروا إلى أميركا من أجل مؤتمرهم يمكنهم أن يقولوه في القاهرة، فما يقوله الدكتور سعد الدين إبراهيم على شبكة «سي إن إن»، يقوله وأكثر منه في مقاله في «المصري اليوم» كل سبت، وما قاله الدكتور يحيى الجمل في نيويورك، يقول أكثر منه في الصحف والتلفزيونات المصرية، وهو ضيف دائم على كثير منها. إذن، ما الهدف من عقد مؤتمر عن التغيير في مصر في أميركا؟ الذكاء الاجتماعي يقول إن أي مؤتمر عن التغيير يعقد في أميركا يفقد مصداقيته، لأن المجتمع في مصر بطبيعته يرفض نقطتين؛ الأولى ما يراه أنه تدخل من الخارج، والثانية، فكرة الخواجات، أي الوصفات القادمة من بلاد رآها رمزا للاستعمار. إذن، ما ظنه المنظمون أنه فائدة من أجل التغيير من خلال إقامة مؤتمر بالمشاركة مع جامعة نيويورك، فإن محصلته النهائية بعد هذا المؤتمر كانت سلبية.

الحديث عن مصر في نيويورك في معقل عتاة الصهاينة المتربصين بمصر، وهنا أنا أتحدث عن معرفة لا مجرد ادعاء، يستخدم لإيذاء مصر، فهناك كثيرون ممن يتصيدون أنصاف العبارات وأنصاف الحقائق التي يقولها مصريون، لاستخدامها في تقارير ومقالات الهدف منها هو النيل من مصر. إنها لسذاجة أن يظن أحد المتحدثين العظام في هذا المؤتمر أن الأميركي الذي جاء يستمع، لديه الخلفية الثقافية التي تضع الكلام في نصابة وسياقه الصحيحين. عندما نقول «لأن مصر يحكمها قانون الطوارئ» مثلا في نيويورك، فإن فهم المواطن الأميركي لها أن المصريين يعيشون في دولة بوليسية، أو أن النظام المصري الاقتصادي والسياسي على كف عفريت، وأن الوضع برمته في طريقه إلى الانهيار. والحقيقة هي أن الأمر غير ذلك، وأن مصر بلد مستقر، ولا تظهر كلمة الطوارئ فيه إلا في حالات الجدل السياسي عن التغيير، أما الاستثمار في مصر فهو آمن، وحياة السائح آمنة، ولا خطر هناك لا على الاستثمار أو على السياحة. ولكن الأميركي النيويوركي ذا الأجندة الصهيونية سيئ النية، سيحور هذا الكلام لينشره ويعممه لدى الصحف والتلفزيونات القوية بطريقة تخدم مصلحته ومصلحة إسرائيل التي ترى في مصر حتى الآن عقبة قوية تقف حائلا بينها وبين تحقيق طموحها التوسعي في المنطقة.

أنا لست ضد نقد الأوضاع في مصر، فهناك كثير من النواقص التي أنتقدها كل أسبوعين تقريبا في مقالاتي، ولكن هناك فارق بين حوار حول مستقبل مصر بين من يفهمون طبيعة المشكلات المصرية، وبين من لا يفهمون. عندما ننتقد مصر بـ«العربية» في العالم العربي كله، فنحن ننتقد مصر وسط من يفهمون، ونتوقع من كثير منهم الرد، لأنهم يعرفون كثيرا عن الوضع، أما في نيويورك فتؤخذ أنصاف الحقائق على أنها حقائق، وتلون العبارات لمصلحة المستفيد. وفي هذا السياق، المستفيد هم أصدقاء إسرائيل لا أصدقاء العرب، وهذا القول ينطبق على الحديث عن الدول العربية برمتها في الغرب.

إن تسييس القضايا المحلية خارج السياق يدل على سوء نية أحيانا؛ فالقصد من الحديث عن مصر خارج مصر يهدف إلى تغيير الملعب والجمهور والحكام، وربما تغيير قواعد اللعبة برمتها. مهم أن يلعب المصريون الراغبون في التغيير مباراة التغيير وسط جمهور مصر، ولا داعي لنقل المباراة إلى نيويورك. نعم هناك شكوك حول حكم المباراة، كما يحدث في مباراة الأهلي والزمالك ونأتي بحكم أجنبي ليدير المباراة، ولكن هذا لا يعني أننا لا نلعب في مصر، وأمام جمهور مصري، كما أننا لم نغير قواعد اللعبة من مباراة كرة قدم تلعب بالقدم إلى مباراة كرة سلة أو مباراة تلعب بالقدم وباليد معا.

هنا أطالب الحكومة أن تفتح المجال حتى لمعارضيها للحديث والكتابة في الصحف التي تدعهما في الداخل، لأن الهدف لأي معارضة وطنية هو مصلحة البلد لا خرابها. ومعنى المعارضة والحكم هو أن هناك جدلا وطنيا بين رؤيتين مختلفتين لتعظيم مصلحة البلد العليا، تتنافس فيه الأفكار من أجل مصلحة البلد، لا من أجل هدم البيت على من فيه. على الرغم من أنني أعيش في الخارج لا في الداخل، فإنني أرى أن مؤتمر المعارضة المصرية في نيويورك، هو بداية تدويل الشأن المصري، وأرى أنه عيب، بل وخطر وخطأ استراتيجي كبير أن نروج لهذا بأنفسنا، لأن نهاية حوار مؤتمر نيويورك هو أنه بعد عام أو عامين، إذا ما استمر مثل هذا الطرح، سنجد العالم كله يتحدث عن «أزمة الحكم في مصر». وإذا ما وصلنا إلى هذه النقطة، فقل على السياحة والاستثمار في مصر السلام، فلن يأتي سائح ليزور بلدا فيه أزمة حكم، ولن يأتي مستثمر ليضع أمواله في بلد فيه أزمة حكم. ما حدث في نيويورك بداية عيب كبير، وخطأ استراتيجي من المعارضة والحكم معا. أتمنى أن يصل المصريون إلى رشدهم في هذه المسألة قبل أن يصبح هذا سلوكا متكررا، الذي قد يؤدى في النهاية، كما ذكرت، إلى تدويل الحوار حول الحكم في مصر، وهذا أمر جد خطير.