وجه الفاشية المضطرب

TT

أن يستجوب جندي إسرائيلي أستاذا أميركيا بقامة نعوم تشومسكي، الذي يجله ملايين الطلاب والأساتذة حول العالم، طوال ساعات، ومن ثم يمنعه من دخول الضفة الغربية المحتلة ليلقي محاضرة مدعوا لها مسبقا، لهو أمر ذو دلالات خطيرة وجديدة عن الدرك الأسفل الذي أوصلت إليه الإدارات المتعاقبة في واشنطن، بلادها، نتيجة رضوخها لإرادة الجنرالات في الكيان الصهيوني. ليس تشومسكي فقط مواطنا أميركيا، وأستاذا جامعيا، وعلاّمة في اللغويات، بل هو معروف في كل أصقاع الأرض بآرائه، وأبحاثه، وإبداعاته، ويتشرف أي بلد بدخول تشومسكي إلى أراضيه، وتتشرف أي جامعة بأن يقبل بإلقاء محاضرة فيها، ومع كل هذا الإذلال الذي تعرض له فلم نسمع حشرجة احتجاج من أي مسؤول أميركي حتى ولو كانت خافتة.

لنتخيل أن أي مواطن أميركي قد منع من الدخول على أي حدود أخرى بهذه الطريقة، أو أنه استُجوِب على يد جندي غير إسرائيلي، ربما إيراني، أو تم التحقيق معه لساعات طوال على الحدود مع كوريا، ما هي ردود الفعل الأميركية السياسية والإعلامية المتوقعة حينذاك؟! وكيف كان الناطق باسم البيت الأبيض، والخارجية، وربما الرئيس نفسه، وكلينتون نفسها، يطلقون تلك التصريحات النارية حينما تكون موجهة ضد سورية أو إيران عن حقوق الإنسان، والقيم الديمقراطية، والحرية؟! ولكن التجرؤ الإسرائيلي على هذه الأسطورة الأكاديمية الأميركية أصاب الناطقين الرسميين هذه المرة بالشلل، فإذا هم صم بكم لا ينطقون.

إن عدم سماح جنرالات إسرائيل ومخابراتها لتشومسكي بالدخول إلى الضفة الغربية الفلسطينية المحتلة لإلقاء محاضرة في جامعة بيرزيت يشكل تصعيدا لسياسة تحدي الولايات المتحدة التي تقوم بها حكومة نتنياهو معتمدة على قدرة اللوبي الإسرائيلي في الكونغرس على تطويع الرئيس الأميركي ولي ذراعه في كل مرة تتحداه إسرائيل. إن تجاهل القيم الإنسانية والأخلاقية أمر معتاد في السلوك الإسرائيلي تجاه العرب، ولكن تصاعد الغطرسة الإسرائيلية تجاه الإدارة الأميركية يثبت حقيقة أن جنرالات الكيان قد أُطلِقَت يدهم من قِبَل حكومة نتنياهو المتطرفة ليمارسوا غطرستهم ضد الجميع، وخطورة ذلك يؤكدها برادلي بورستون في صحيفة «هآرتس» (19 مايو/ أيار 2010) «بأن اليمين في إسرائيل وأصدقاءه وداعمين في الخارج قد بدأوا بزراعة وتغذية بذور الفاشية». ويذهب بورستون إلى وصف ما فعله ضباط إسرائيليون بمراسل أخبار «راديو إسرائيل»، الذي كان يلتقي أحد المتظاهرين من الفلسطينيين الذين طُرِدوا من منازلهم كي يحتل اليهود هذه المنازل: «انقض العسكر الإسرائيلي على المراسل وسحبوه أرضا وألقوه في سيارة للشرطة، هذا بالإضافة إلى القتل والضرب والغاز المسيل للدموع مع أن معظم المتظاهرين هم من اليهود الإسرائيليين، فإن هذا يُري أن الفاشية تنمو بتسارع في إسرائيل ولكن بوجه مضطرب». كما أن إعلانات جنرالات إسرائيل بأنهم لن يسمحوا لسفن المساعدات الإنسانية بالدخول إلى غزة المحاصرة منذ ثلاث سنوات والمحرومين من أبسط مستلزمات العيش من غذاء ودواء ومواد البناء، فكل هذا، كما يقول بورستون، هو «معاملة عنصرية وغير ديمقراطية وفاشية من قبل حاخامات متطرفين خاصة هؤلاء الإسرائيليين المتسلطين على الضفة الغربية».

هل يعلم المسؤولون في الولايات المتحدة أنهم حين يقدمون الأعذار والمال والدعم لحكومة نتنياهو المتطرفة أنهم يعملون في العمق ضد مصلحة اليهود والمسلمين والمسيحيين في الشرق الأوسط؟! إن منح الكونغرس أكثر من 200 مليون دولار إضافية من أنظمة التسلح الجديدة لإسرائيل سيزعزع الاستقرار والأمن في الشرق الأوسط، وسيؤدي ذلك إلى تسارع سباق التسلح، وإلى تشجيع المتطرفين في إسرائيل على شن المزيد من الحروب ضد جيرانهم. ألغى أليفس كوستيلو حفلتين كان يزمع إقامتهما في إسرائيل احتجاجا على جرائم حكومتها ضد الإنسانية: «يجب أن أعتقد أن الجمهور الذي كان سيحضر حفلاتي يتضمن عددا من الناس يشككون بسياسات حكومتهم الاستيطانية ويدينون ظروف الإذلال والتنكيل، أو أسوأ من ذلك بكثير، المفروضة على المدنيين الفلسطينيين باسم الأمن القومي».

وإذا كان البعض في الأوساط الحاكمة في الولايات المتحدة لا يحرص على كرامة تشومسكي، ولا يثق بحكمة ونزاهة كوستيلو فليقرأوا مقالة غادي بالتيانسكي «الشعب الإسرائيلي ضائع في الغابة» (مجلة السياسة الخارجية، 19 مايو 2010) الذي يوضح أن «ثلثي الناس في إسرائيل يدعمون إخلاء المستوطنات كجزء من اتفاق سلام مع الفلسطينيين. ومع ذلك في الوقت نفسه فإن 30% فقط يعتقدون أن هذا هو رأي الأغلبية». وهكذا فإن الأغلبية التي تدعم إخلاء المستوطنات ترى نفسها كأقلية بينما ترفع مجموعة ضئيلة من المتطرفين العنصريين لنشر الفاشية في إسرائيل عبر تشجيع الاستيطان، وتتصرف كفرق «إس إس الهتلرية» لقمع الإرادة العامة للناس. يقول الكاتب الإسرائيلي باليتانسكي: «لو قَبِلَ قائد أجنبي التحدي وأمسك بأيدينا وخاطب قلوبنا يمكن لنا أن نجد طريقا يقودنا خارج الغابة». أي أن محاباة الكونغرس للجنرالات الإسرائيليين المعروفين بعطشهم لدماء المدنيين العرب العزل، وتزويدهم لمجرمي الحرب هؤلاء بالمال والسلاح اللازمين لشن المغامرات العسكرية ضد الجيران، فإنهم، رغم تصريحاتهم الرنانة عن السلام، يقودون شعوب الشرق الأوسط نحو الكارثة المحتومة. ها هو الإعلام الإسرائيلي (انظر «هآرتس» 18، 19 و20 مايو 2010) يعبر عن آراء ترى في منع تشومسكي من الدخول إلى الضفة الغربية المحتلة نقلة عنصرية وفاشية ونذرا من نظام متطرف مرعب، بينما لم يشن الإعلام الأميركي، بمجمله، العاصفة التي يتوقعها الجميع نتيجة هذه المعاملة المذلة التي عُومِل بها مواطن أميركي يمثل شرف وقيم الولايات المتحدة.

إن تجرؤ الجنرالات الإسرائيليين على القاضي اليهودي غولدستون، الذي صرح مرارا وتكرارا أنه لا يبغي شيئا سوى العدالة، والحملة التشويهية التي أطلقها جنرالات الكيان ضده وضد عائلته وتسببت له في الكثير من الأذى ولم يأتِ الإعلام الغربي على انتقادها بتاتا، قد قادت هؤلاء الجنرالات إلى التجرؤ على قامة أسطورية مثل تشومسكي، وإذا لم يتم إيقاف هؤلاء الجنرالات هنا فمن يدري، قد يستَجوب جندي إسرائيلي على الحدود رئيس دولة غربية، خاصة إذا ما تجرأ على انتقاد أي من جرائم الجيش الإسرائيلي ضد المدنيين الفلسطينيين العزل.

إن سياسة المحاباة التي يتبعها أوباما وكلينتون والكونغرس والغرب عموما حيال إسرائيل ستؤدي إلى خلق فرانكشتاين إسرائيلي الذي لن يُرعب الفلسطينيين وحدهم، بل سيمتد إرهابه ليطال هؤلاء الذين حابوه ولم يضعوا حدا له حين كانوا قادرين على ذلك.

إن مقاطعة أسطورة موسيقى الروك إليفس كوستيلو لإسرائيل، ومن قبله مطرب الجاز جيل سكون هيرون، وعازف الغيتار كارلوس سانتانا ليست دعما للعدالة في فلسطين وحدها، بل للقيم الإنسانية والديمقراطية، وإنقاذا لمن سيكونون ضحية لهؤلاء الجنرالات من العرب والإسرائيليين على حد سواء في المستقبل القريب. فقد بدأ هتلر مساره السيئ الصيت كألماني محب لألمانيا، وحريص على الألمان، ولكنه أورث الألمان عار اضطهاده المريع لمن كان يسميهم أعداء ألمانيا؟ هؤلاء الجنرالات في إسرائيل ليسوا أحسن حالا من جنرالات هتلر، وجرائمهم ليست أقل بشاعة من جرائم النازيين، ولذلك من الحكمة الاستنتاج أنهم لن يكونوا أقل خطورة من أولئك على شعبهم وعلى الشعوب الأخرى، فهل هناك من يجرؤ على اتخاذ قرار بالوقوف ضد الطغاة الإسرائيليين اليوم لإنقاذ مستقبل العرب واليهود والعالم غدا؟