أزمة الديون الأوروبية تنذر بعهد من التقشف

TT

بعد عقود من الرفاهية وسنوات من التبذير، تتطلع أوروبا المذعورة إلى قدوم سياسات التقشف، فأجبرت الدول المدينة المستاءة مثل اليونان وإسبانيا والبرتغال على زيادة الضرائب وخفض الإنفاق المضني الذي قوبل بالسخط من مواطنيها - ولم تكن تلك سوى البداية وفقط.

صب مواطنو هذه الدول الغاضبون جام غضبهم وأحيانا الحجارة على قوات الشرطة، فيما تساءل الدائنون المستاؤون، مثل ألمانيا، الذين قدموا خطط الإنقاذ، عن السبب في ربط أنفسهم (وقيمة عملاتهم) بمثل هذه الحكومات غير المسؤولة. أما من لا يبدون استياءهم فهم مذعورون، فعمدت بريطانيا - التي تبلغ نسبة العجز في ميزانيتها أعلى من اليونان - إلى تشكيل حكومة تحالف لا يجمعها من القواسم المشتركة سوى القليل، عدا عن التزام باستقرار الميزانية. وكان الهدف من الحفاظ على البرلمان الحالي على مدار السنوات الخمس القادمة طمأنة الدائنين والمصنعين بأن حكومة ديفيد كاميرون ستكون مستقرة بما يكفي لاتخاذ الخيارات المالية الصعبة.

كل أزمة مالية تلوح في الأفق تبدو وكأنها اختبار سياسي - اختبار لبعد النظر السياسي والقدرة على وضع النظم الكفيلة بالتعامل معها أو اختبار لإدارة الأزمة. وأميركا ليست استثناء في ذلك. ففي عام 2009 أنفقت الحكومة الفيدرالية 1.67 دولار لكل دولار تجمعه من الضرائب. وسوف تزيد مقترحات الميزانية التي وضعتها إدارة الرئيس أوباما من الدين العام على مدار العقد القادم، مما سيؤدي في النهاية إلى تباطؤ النمو الاقتصادي وارتفاع نسبة التضخم وجعل أميركا أكثر اعتمادا على كرم الدائنين.

هل استجابت قيادتنا السياسية لذلك؟ مؤخرا وجد الكونغرس 60 مليار دولار مدخرات لبرنامج قروض الطلاب الفيدرالي - أنفق غالبيتها على المشروعات التعليمية الأخرى، كما اقتطع مشروع إصلاح الرعاية الصحية أكثر من 350 مليار دولار من الإنفاق على الرعاية الصحية - وأنفقها جميعا وأكثر في استحقاقات صحية جديدة.

قد يمضي وقت طويل قبل أن يتحول التحدي الذي تواجهه بريطانيا إلى تحد مماثل لذلك الذي تواجهه اليونان. وتوشك أميركا هي الأخرى على الدخول في عهد من التقشف، الذي يتوقع أن يهيمن على المشهد السياسي على مدار العقد المقبل. وستشهد اللعبة الجديدة عددا قليلا من الرابحين وعددا أكبر من الخاسرين.

وإذا ما طبقت الحكومة الفيدرالية خفض الإنفاق بصورة أكثر جدية، فستضرب الموجة الأولى من التقشف الولايات وموظفي الدولة. فقد أدى ضخ أموال خطة التحفيز، التي أقرت العام الماضي، إلى التعتيم على الأوضاع المالية غير المستقرة للعديد من الولايات، لكن لن يكون هناك المزيد من خطط الإنقاذ.

هناك العديد من الولايات - مثل كاليفورنيا ونيويورك - تقف على حافة العجز عن سداد ديونها، ومن ثم ستقوم بإجراء تخفيضات كبيرة في الإنفاق عبر خفض معاشات وتعويضات الموظفين، مما يقود إلى معركة كبيرة بين الحكومات والحركة العمالية نظرا لأن غالبية عمال النقابات العمالية موظفون في القطاع العام. ويكون المحافظون الديمقراطيون في موقف يحسدون عليه لأنهم انتخبوا بدعم من النقابات العمالية.

ومن المتوقع أن يشكل السواد الأعظم من الخاسرين، نتيجة سياسات التقشف، أبناء الطبقة العاملة الذين يعيشون الأربعينات من العمر. لا يمكن أن تكون هناك انخفاضات كبيرة في الإنفاق الفيدرالي دون إصلاح الاستحقاق. فسيحتاج الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية في النهاية إلى التحول من استحقاقات الطبقة المتوسطة بسبب عصر الاستحقاقات التي منحت لأصحاب الدخول المنخفضة. وفي أي إصلاح للاستحقاق سيتم استثناء الأميركيين المتقاعدين أو من هم على وشك التقاعد، وسيكون أمام العديد من الشباب عقود للاستعداد لبنية استحقاق جديدة. وربما يعْلق الكثير ممن هم في وسط العمر أو الطبقة المتوسطة في المنتصف.

وربما يكون أكبرَ الخاسرين نتيجة لذلك مسؤولون سياسيون يأخذون تلك الحقائق بجدية. فلن تشبه التغييرات الضرورية البرامج الحكومية الضخمة لمعالجة خفض العجز في الميزانية الذي وقع بين عامي 1990 و1993 والذي كان هينا إلى حد ما. فهذه الجولة ربما لا تتطلب وسائل اختبار الضمان الاجتماعي والرعاية الطبية فقط، لكن أيضا خفض أو إلغاء استحقاقات الطبقة الوسطى مثل خفض فوائد الرهن العقاري واستثناء الرعاية الصحية لأرباب العمل. وربما يُطلب من بعض السياسيين التضحية بعملهم السياسي من أجل قضية عادلة.

نظرا لهذه الصعوبات لن تكون الحكومة الفيدرالية جادة في شأن خفض الإنفاق، نظرا لتشكيل موظفي الدولة وكبار السن من الطبقة الوسطى جماعات التصويت الأقوى. سيكون البديل محاولة خفض العجز في الميزانية عبر زيادة الضرائب - ربما الاستهلاك الإضافي أو الضريبة على القيمة المضافة. لكن هذه الطريقة ستتضمن تحولا خطيرا للموارد من القطاع الخاص إلى القطاع العام، مما يجعل المواطنين أكثر فقرا لصالح الدوائر الانتخابية السياسية المفضلة. مما جعل الكثير من الأميركيين أكثر فقرا لصالح الدوائر السياسية المفضلة. وللحفاظ على الالتزامات التوسعية العامة، سيطلب من الأميركيين قبول انخفاض معدلات النمو الاقتصادي وضعف فرص العمل. وقد لا يرحب أبناء الطبقة الوسطى بالضرائب قدر ترحيبهم بخفض الفائدة.

ربما يكون عهد التقشف باعثا على الشقاء وسيقيد الكثير من الخطط التوسعية لكنه في الوقت ذاته مهم أيضا.

* خدمة «واشنطن بوست»