إسرائيل في وادٍ آخر

TT

مطلوب من الرجل الهادئ.. كثير الحركة وقليل الكلام، جورج ميتشل.. تحقيق معجزة خلال الأشهر الأربعة القادمة، هذه الأشهر الأربعة السحرية، التي ستنتهي تقريبا مع أشهر التجميد الجزئي والمؤقت للاستيطان.. ينبغي أن تحسم فيها قضية الحدود والأمن.

ووفق التحليل المبسط للأصعب والأقل صعوبة، يرى كثيرون أن الحدود بين إسرائيل وفلسطين، هي الموضوع الأكثر جاذبية للبدء به، فهي توضح شكل ومضمون الدولة الفلسطينية المنشودة، وتضع حلا لمسألة الأطماع الإسرائيلية دائمة التجدد في الأراضي الفلسطينية. وفوق هذا وذاك، توفر حلولا لقضية المستوطنات والقدس والمياه واللاجئين، وغيرها من القضايا التفصيلية التي تشكل مجمّع القضايا الإشكالية في الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي.

إذن، فقضية الحدود والتفرغ لحسمها ليست مجرد قضية أساسية مما نسميه قضايا الوضع الدائم، وإنما هي المفتاح السحري لحل جميع القضايا الأخرى.

بالنسبة إلى الفلسطينيين فإن كلمة «الحدود» تعني ما يجب أن يؤول إليهم من أراضٍ تم احتلالها عام 67، بما في ذلك القدس الشرقية وكذلك جميع أراضي الغور، التي تشكل أهم مخزون أراضٍ للدولة الفلسطينية العتيدة.. مع الشاطئ الهام للبحر الميت.. إضافة إلى إصبع اللطرون الذي عودت إسرائيل نفسها على اعتباره مستوطنة مودعين، ضاحية من ضواحي تل أبيب.. أو امتدادا حيويا لها.

ومع هذا التحديد المنطقي والعادل للفهم الفلسطيني لمسألة الحدود، التي يراد حسمها خلال الأشهر الأربعة القادمة، «هذا إذا ما بدأ العد من اليوم»، تلوح في الأفق.. بل وتتكرس معادلة إسرائيلية في التعامل مع هذا الأمر المفصلي... ودعونا نلقي نظرة على المفاهيم الأولية للحدود بالنسبة إلى الجانب الإسرائيلي.. ولنبدأ بفرضية أن الذي يحكم إسرائيل ويتخذ القرارات فيها هو حركة «السلام الآن» وليس تحالف نتنياهو - ليبرمان.. والمقصود هنا ليس السخرية أو المزاح، بل المقارنة بين ما نريد كأصحاب حق وما يمكن أن يتنازل عنه أفضل الإسرائيليين.. مع اليقين باستحالة وصول هؤلاء الأفضل إلى الحكم. يقول مفاوض «السلام الآن»: تعلمون أيها الأصدقاء الفلسطينيون أننا مع تمتعكم بكامل حقوقكم.. غير أننا في أمر القدس الشرقية لا نملك إلا إدخال أي تنازل عنها في مفاعلات صناعة القرار الوطني، أنه الكنيست أو الاستفتاء. لذا، مع كل تقدير لحقوقكم، دعوا القدس في أفضل الحالات إلى مرحلة أخرى، لعلنا نحدث التغيير المطلوب لاستصدار قرار بالتنازل عنها أو عن بعض منها.

وتعلمون أيها الأصدقاء أن الهاجس الأمني وإن كنا متحررين منه، فإننا لا نستطيع تجاهل مخاوف الجمهور الإسرائيلي من الخطر القادم من كل مكان يحيط بإسرائيل. فكيف لنا أن نسلم لكم بحدود تحت سيطرتكم المطلقة؟ نحن نوافق.. إلا أن المعادلة في إسرائيل لا تسمح، وإن سمحنا نحن فسنسقط في اليوم التالي..

إذن، خذوا ما نعرض عليكم كحلّ مؤقت ريثما تنضج الظروف الداخلية في إسرائيل نحو حل دائم.

ساعتها لا بد أن يتذكر المفاوض الفلسطيني كل الاعتبارات التي تجعله يقول «لا». فالمؤقت كما يعتقد ويجزم سيتحول حتما إلى دائم، وإلى أن تنضج في إسرائيل معادلة داخلية تعطي الفلسطينيين كل ما لهم يكون كل ما لهم قد ذهب مع الريح.

السيد ميتشل، وهو رجل لا يشك أحد في كونه واحدا من أفضل الشخصيات الأميركية، لن يقع في محظور اليأس والحسابات المحبطة.. إنه سيعمل دون كلل أو ملل، من أجل تحييد عامل الوقت. فهو مضطر إلى اعتبار الأشهر الأربعة القادمة كافية لإحداث اختراق كان يبدو مستحيلا قبل شهر.. هذا الاختراق سيتجسد في تجاوز القضية الأولى، وهي تحويل غير المباشر إلى مباشر.. وتزويد الفلسطينيين الذين لا خيارات أخرى بأيديهم أفضل من الرهان على نجاحه، بنصائح من نوع «لا تقدموا على أي أمر يفهم منه (استفزازا) لإسرائيل»، و«لا تدققوا في أي أمر تقدم عليه إسرائيل من قبيل (الاستفزاز)»، و«حافظوا على هدوء أعصابكم»، و«لا تسمحوا لليبرمان أو يشاي أو نتنياهو باستفزازكم وحملكم على ترك مائدة المفاوضات».. «إنهم لو استوطنوا هنا أو هناك بإعلان أو دون إعلان.. فماذا سيفعلون أكثر من ذلك؟ إنهم يريدون إقصاءكم عن موائد المفاوضات، فتشبثوا كي تحبطوا أهدافهم»..

ليس بوسع المفاوض الفلسطيني إلا أن يصغي، لأن المتحدث هو الدولة العظمى التي تمسك بالملف، ويظن أنها وحدها القادرة على الضغط.. وعلى جعل المغلوب على أمره يتمتع بميزة التفاؤل القسري..

حين اخترت عنوان «إسرائيل في وادٍ آخر» لم أنتبه إلى تصريحات ابلي يشاي حول الاستيطان في القدس، ولا إلى أحاديث نتنياهو عن الاحتفاظ بأراضي الغور لأسباب أمنية استراتيجية، وإنما الذي لفت انتباهي أنه في الوقت الذي ننتظر فيه حدوث معجزة في أربعة أشهر، سربت إسرائيل خطة إعادة احتلال غزة وأعلنت أنها تبحث من الآن عن حاكم عسكري لإدارة شؤونها، ليس بسبب خطر ما تطلقه حماس من غزة هذه الأيام، وإنما لاحتمال معالجة الملف الإيراني على الطريقة الإسرائيلية، بما يتطلبه ذلك من جراحة ضرورية في غزة وجنوب لبنان، كما يقال في إسرائيل.

إن تسريب خطة إعادة احتلال غزة يصلح بفعل الفهم الدارج للسلوك الإسرائيلي كاستفزاز، إلا أنه يصلح كذلك كبند جديد على جدول أعمال الرجل الفاضل جورج ميتشل كي يحسم خلال الأشهر الأربعة القادمة.. أي بعد أن يكون الاحتلال الجديد قد تم، إلا إذا لم يسمح الله سبحانه وتعالى بذلك.