عصر النص الإلكتروني

TT

لا أذكر متى وأين، قرأت أن الصحيفة الوحيدة التي كانت تصل إلى اليمن خلال الحرب العالمية الثانية، كانت «الأهرام». وكانت تصل فقط إلى دارة الإمام وبعد أيام من صدورها، أو أسابيع. والأرجح أنني قرأت ذلك عند أحد رحالة الأربعينات، الذين استطاعوا، بذريعة أو أخرى، بلوغ صنعاء أو تعز أو الحديدة.

الآن لا أدري أين وعلى أي موقع الأفضل أن أتابع أخبار اليمن. ولا أعرف تماما كم صحيفة تصدر في صنعاء. إن ميزة الأيام أو الحقبة أو المرحلة التي نعيش فيها هي أن المعلومات التي تصلنا، بالسرعة التي تصلنا بها، لا سابقة لها في التاريخ. لكن هذا الفيض يجعلنا أقرب إلى أيام كانت «الأهرام» هي المصدر الإخباري الوحيد في صنعاء. لم نعد نعرف ما هي الحقائق  وما هي الأكاذيب. من مع من ومن ضد من. لم تعد الصحافة صحافة ولم يعد للخبر أي علاقة بمبدأ وقواعد الخبر. لم يعد هناك شيء اسمه «تحرير»، أي تدقيق ولغة ومسؤولية، وما عاد هناك شيء اسمه صحافة، بمعنى المصداقية النصية. وأنا من قرية سكانها دون الألف، (في الصيف) لكنني أمضيت الأيام الماضية الغي عن هاتفي الجوال، الرسائل التي تردني من  أبطال اللوائح المتنافسة على مقاعد البلدية. في الليل وفي النهار كان الهاتف يرن حاملا شعارا جديدا. ما أفظع التكنولوجيا عندما تستخدم في نقل التخلف. ما أحقرها عندما تنقل مشاعر الفرقة في سرعة الضوء. 

لكن هذا هو عصر الغرق في ما يسمى «الإعلام» على بعد قارتين ومسافة محيطين ترغم على متابعة «المعركة» في قرية من ستين منزلا، في الصيف. في الشتاء لا حركة إلا في عشرة منازل على الأكثر. لكن «وسائل» الإعلام الجديدة تلاحقك أينما كنت، بسبب سهولة الاستخدام وإسهال الكلام. أرى في المصعد شاشة تنقل أخبار «وول ستريت» وفي سيارة التاكسي شاشة تنقل الإعلانات. وفي الشوارع شاشات هائلة الحجم تنقل أخبار العالم. وهاتفي يرن في بيروت حاملا دعاية آخر التنزيلات وأخبار انتخابات المتن ومعركة البلدية في بنت جبيل. هل هذه هي «الصحافة»؟ أم هذا هو العصر؟ أنا في حنين دائم إلى القرن التاسع عشر. إلى شجرة سنديان ورف عصافير تغرد وهدوء يملأ السمع وسكينة تملأ الحواس. وكل ما هو من «أخبار» خارج ذلك هو هرب عندي إلى عصر غرق في الرسائل النصية.