جزار وشاعر - شاعر وجزار

TT

كثيرا ما يجد الشعراء أن الشعر لا يعطيهم لقمة عيش، فيضطرون إلى دعم هوايتهم بمهنة تؤكلهم الخبز. كان من هؤلاء أبو الحسين الجزار (679هـ)، الذي اكتسب لقبه هذا من مهنته، فقد كان جزارا بالفعل في مصر. ونظم بعض الشعر تذمرا من مهنته، فقال:

حسبي حرافا بحرفتي حسبي..

أصبحت منها معذب القلب

موسخ الثوب والصحيفة من..

طول اكتسابي ذنبا بلا كسب

أعمل في اللحم للعشاء ولا..

أنال منه العشاء فما ذنبي؟

خلا فؤادي وفي فمي وسخ..

كأنني في جزارتي كلبي!..

انتهز أخيرا فرصة معرفته بالأدب وتمكنه من الشعر فترك الجزارة واحترف الأدب. قربه ذلك إلى الوجهاء والعظماء، لكن من دون طائل. فلم ينل من مدحهم ومصاحبتهم ما كان يصبو إليه من نعيم الحياة ووفرة المال. لذلك عاد إلى مهنة الجزارة غير آسف.

ونظم في ذلك أبياتا من أطرف ما قيل من السخرية. قال:

لا تلمني يا سيدي شرف الدين إذا ما رأيتني قصابا

كيف لا أشكر الجزارة ما عشت وأهجر الآدابا

وبها صارت الكلاب ترجني وبالشعر كنت أرجو الكلابا..

والبيت الأخير رائع في بلاغته وتهكمه. عندما كان جزارا كانت الكلاب تركض وراءه، وعندما أصبح أديبا، أصبح هو من يركض وراء أولي الشأن والمال.

وربما عادت خيبة مسعاه إلى أن أولي الشأن في عصره كانوا على الغالب من المماليك الأتراك الذين لم يفهموا اللغة العربية خارج الاستعمال اليومي الضيق، ولا كانت لهم أي قدرة على تذوق الشعر والأدب. ومن ثم شحت أياديهم في العطاء، على خلاف الحكام العرب الذين هاموا شغفا بالشعر واستحسنوا المديح ونشأوا على الكرم والعطاء. لاحظ أبو الحسين كل ذلك فقال فيهم:

وكم قابلت تركيًّا بمدحي..

فكان لما أحاول منه يحنق

ويلطمني إذا ما قلت الطن..

ويرمقني إذا ما قلت يرمق

وتسقط حرمتي أبدا لديه..

فلو أني عطست لقال يشمق..

ولا شك أن من أظرف أشعاره كان ما كتبه في هجاء المرأة العجوز التي تزوج بها والده في أواخر عمره:

تزوج الشيخ أبي شيخة..

ليس لها عقل ولا ذهن

لو برزت صورتها في الدجى..

ما جسرت تنظرها الجن

كأنها في فرشها رمة..

وشعرها من حولها قطن

وقائل قال لي: ما سنها؟..

قلت: ما في فمها سن!.