استقرار السودان ووحدته.. قرار داخلي وخيار إقليمي ودولي

TT

يستعد الرئيس السوداني عمر البشير لأداء اليمين الدستورية قبل نهاية شهر مايو (أيار) الجاري، مستهلا بذلك دورة رئاسية جديدة مدتها الدستورية خمس سنوات، ومن المقرر أن يحل الحكومة الحالية، ويشرع في تشكيل الحكومة الجديدة قبل موعد أداء اليمين الدستورية. ويأتي ذلك وسط أجواء من التفاؤل أحيانا ومن التشاؤم أحيانا أخرى حول مستقبل السودان.. المتشائمون يعتقدون أن عهد الرئيس البشير سيشهد وجود دولتين في السودان هما دولة الجنوب ودولة الشمال، بل بعضهم يذهب إلى أبعد من ذلك ويتوقع مثول الرئيس البشير أمام محكمة الجنايات الدولية، أما المتفائلون وفي مقدمتهم الرئيس البشير نفسه يرون أن الجنوبيين سوف يختارون الوحدة طواعية ودون ضغوط، وفي هذا الصدد يقول الرئيس البشير إن لديه حسابات بالأرقام تؤيد تفاؤله، وبحسب وجهة نظره فإن 40 في المائة من أبناء الجنوب مع الوحدة، و30 في المائة فقط ضدها، وقطع وعدا على نفسه أنه قادر على استمالة 10 في المائة لتأييد الوحدة ومن ثم سيكون عام 2011 هو عام الوحدة السودانية طبقا لوجهة نظر الرئيس البشير.

لكن السؤال المهم هو: إلى أين يتجه السودان في المرحلة المقبلة؟.. وهل سيتجه للوحدة أم للانفصال؟ وما مصير أزمة دارفور؟ وأين ستقف أحزاب المعارضة الشمالية من عملية الشراكة في الحكم وإدارة الدولة؟ وما دور الدول العربية ودول الجوار الأفريقي في بقاء السودان متماسكا؟.. وبالإجابة على هذه الأسئلة نرى أن السودان يقف على مفترق طرق، وإنقاذه يتطلب تلاحم أبناء الشعب السوداني نفسه وإسقاط الفئوية والحزبية أمام مخاطر محدقة تهدد بقاء الكيان السوداني بأسره، كما لا بد من دور عربي فاعل ومؤثر وله نتائج على الأرض يساهم في حل المشكلات العالقة ويجعل الوحدة خيارا جاذبا للجنوبيين، وينهي أزمة دارفور بحلول واقعية من خلال التنسيق مع الاتحاد الأفريقي، والجهود التي تقوم بها دول الجوار الأفريقية ومجموعة الحكماء التي تقودها جمهورية جنوب أفريقيا.

وبداية حل مشكلات السودان نعتقد أنها تأتي من الشمال، أي لا بد أن تكون قوى الشمال لديها الحد الأدنى من الاتفاق على القضايا الجوهرية التي تواجه بلادهم والمشاركة في حلها، وهنا لا بد للمؤتمر الوطني لحاكم بزعامة البشير أن يقترب من الأحزاب الشمالية التي خسرت الانتخابات التشريعية والرئاسية التي جرت في منتصف أبريل (نيسان) الماضي، فرغم غيابها عن البرلمان يجب أن تكون حاضرة في الحكومة، وفي المقابل على أحزاب المعارضة الشمالية أيضا أن تلتزم بالواقعية السياسية بعيدا عن التنظير والجدل غير المفهوم، فمثلا نجد أن موقف حزب الأمة الذي يعد من أكبر أحزاب المعارضة في الشمال غير واضح، حيث صرح رئيسه السيد الصادق المهدي في الخامس من مايو الجاري أن الحكومة المقبلة ستكون مشلولة بسبب ملاحقة المحكمة الجنائية الدولية للرئيس البشير، وأن هذه الحكومة غير شرعية لأنها أتت إلى السلطة بانتخابات مزورة، لكنه في الوقت ذاته دعا الرئيس البشير إلى إجراء تسوية سياسية عادلة من أجل تعافي السودان.

والمطلوب في هذه المرحلة أن يلتقي الطرفان في منتصف الطريق برعاية عربية لإنهاء حالة الشحن المتبادلة والاتفاق على صيغة للمشاركة من أجل مستقبل السودان، ونرى أن دول الجوار العربي للسودان والجامعة العربية تستطيع الاضطلاع بدور كبير في التهدئة داخل السودان، ليس بين الأطراف الشمالية فحسب، بل على مستوى التهدئة على مستوى عموم السودان، ومن ثم عليها المبادرة بتبني مؤتمر في مقر الجامعة لإكمال المصالحة الشمالية - الشمالية أولا، ثم الانتقال إلى بقية مشكلات السودان.

ومن المعلوم أن الانتخابات أسفرت عن فوز الرئيس البشير بنسبة 68 في المائة، كما حصل حزبه (المؤتمر الوطني) على 314 مقعدا في البرلمان الاتحادي مقابل 3 مقاعد لأحزاب المعارضة الشمالية، واكتسحت الحركة الشعبية الانتخابات في الجنوب بعد حصولها على أغلبية مقاعد الجنوبيين في البرلمان الاتحادي، التي تبلغ 136 مقعدا، فيما حصل مرشح الحركة لرئاسة حكومة الجنوب سلفا كير على 92 في المائة من أصوات الجنوب، مع ذلك من المفيد إشراك الأحزاب الخاسرة في الحكومة في ظل وجود استحقاقات تاريخية يجب أن يشارك فيها الجميع.

أما الاستفتاء في جنوب السودان الذي سيجري في مطلع العام المقبل على الوحدة أو الانفصال، فرغم اقتراب موعد هذا الاستفتاء، أي لم يتبق على موعده إلا أقل من ثمانية أشهر، فإن الإشارات الصادرة من جوبا والخرطوم وبقية العواصم المعنية أو القريبة جغرافيّا من السودان ما زالت غامضة ومتناقضة وملتبسة، فالحركة الشعبية الشريك الحالي في حكم السودان لديها توجس من الحكومة المركزية، كما أن ما تقوم به على الأرض يصب في خانة الانفصال، أما حكومة البشير فلديها قدر كبير من التفاؤل بتمسك أبناء الجنوب بخيار الوحدة.

ولكن المعطيات على الأرض تقول إن خيار الوحدة أو الانفصال تحكمه المصالح الإقليمية والدولية أكثر منه عوامل عرقية ودينية وجغرافية.. فجغرافيّا يجاور إقليم جنوب السودان 6 دول، إضافة إلى السودان في حال انفصاله، وتبلغ مساحته 600 ألف كيلومتر مربع، وكل ما لديه من قوات مسلحة لا يتجاوز 130 ألف عنصر، مما يزيد من صعوبة تأمين هذا الإقليم ذاتيا، خصوصا أنه يضم 85 في المائة من احتياطي النفط السوداني، كما أن التركيبة السكانية والمعتقدات الدينية ليست متناغمة أو كافية لترجيح مبدأ الانفصال من منظور الانتماء الديني والقبلي، فيوجد في الإقليم 7 ملايين نسمة ينتمون إلى عدة قبائل ويتحدثون بعدة لغات ويدينون بديانات مختلفة، حيث تبلغ نسبة المسلمين هناك 24 في المائة، والمسيحيون 17 في المائة، والوثنيون 59 في المائة، ويتحدثون الإنجليزية والعربية و3 لغات أفريقية أخرى، إضافة إلى أن الإقليم ليس له منافذ بحرية أو طرق تربطه بالعالم الخارجي.

والإقليم عانى من الحرب الأهلية 17 عاما متواصلة منذ عام 1983 وحتى يناير (كانون الثاني) 2005، أي حتى توقيع اتفاق نيفاشا الذي أقر الحكم الذاتي للإقليم وحدد موعد الاستفتاء على تقرير المصير في يناير 2011، وأدت الحرب إلى تخلف الإقليم، ضمن ظروف عامة شهدها السودان من عدم الاستقرار منذ استقلاله عام 1956, حيث تعاقب عليه خلال هذه الفترة 7 رؤساء جمهوريات و13 حكومة بين عسكرية ومدنية، وأطولها عهدا الحكومة الحالية التي حكمت السودان منذ عام 1989 وحتى الآن.

إذن تبدو مقومات الوحدة أكثر من عوامل الانفصال، لكن الأمر يتوقف على أهداف ومصالح طرفي السلطة، وقدرتهما على حسن إدارة الأزمة والتعامل مع الثروة والسلطة والنفوذ الدولي، وعلى مصالح ونفوذ القوى الكبرى التي تتصارع على الوجود في السودان من أجل الاستفادة بالتحكم في أرواق تهم السودان ودولا أخرى في المنطقة، ومن هذه الأوراق مياه النيل، والبترول.

لذلك نرى أن هناك مسؤولية كبرى على جامعة الدول العربية والدول العربية الفاعلة ودول الجوار الأفريقي في دعم وحدة السودان خلال الفترة القصيرة المتبقية على موعد الاستفتاء، التي لا تزيد كثيرا عن سبعة أشهر. وهذه المسؤولية تتجلي في تسريع وتفعيل مؤتمر «جوبا 2» الذي من المقرر أن تستضيفه مملكة البحرين، والذي اقترحته جامعة الدول العربية لتسويق الفرص الاستثمارية في جنوب السودان عربيا، وأيضا دعم المقترح المصري الذي أعلنه وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط في أثناء زيارته إلى الخرطوم في التاسع من مايو الجاري، حيث أوضح أن بلاده اقترحت استضافة مؤتمر لدعم الوحدة يجمع المؤتمر الوطني والحركة الشعبية في القاهرة، بل إن الوزير أبو الغيط ورئيس المخابرات العامة في بلاده عمر سليمان أعلنا صراحة وبوضوح خلال زيارتهما إلى الخرطوم وجوبا أن القاهرة تعارض انفصال جنوب السودان.

وإضافة إلى ما سبق فإن الحلول العملية لحسم مصير وحدة السودان تتجلى في تأييد المملكة العربية السعودية ومصر باعتبارهما دولتي جوار للسودان، وليبيا باعتبارها دولة جوار وتتولى رئاسة الدورة الحالية للقمة العربية، الدعوة لعقد مؤتمر إقليمي للتقريب بين شريكي الحكم في السودان، وتبني طرح مشروعات عربية يقوم بها القطاع الخاص وتدعمها حكومات هذه الدول لإقامة مشروع تنموي وثقافي ونهضوي في جنوب السودان، بما يعزز عوامل الجذب لصالح خيار الوحدة، من ثم قطع الطرق أمام التدخلات الأجنبية التي ترى في انفصال الجنوب نقطة جديدة للصراع في الشرق الأوسط لما سيترتب على الانفصال من مشكلات تتعلق بالحدود، وتقسيم مياه النيل، والنفط، وتقسيم الثروات.

أما أزمة دارفور فلها عوامل تاريخية وديموغرافية وعمق فرنكفوني، إضافة إلى المصالح الدولية، ففي خضم الصراعات التي شهدها السودان في الجنوب والشرق والخلافات الحزبية في الشمال، وقلة مداخيل الدولة، والقلاقل التي شهدتها تشاد أيضا، انعكس ذلك سلبا على إدارة الخرطوم للإقليم وقلل من الاهتمام المركزي للدولة بحل مشكلاته، كما تراجع نفوذ حزب الأمة التقليدي هناك حيث كانت أغلبية سكان دارفور من أتباع المهدية منذ القرن التاسع عشر، إضافة إلى خصوصية الإقليم الذي يعد نقطة تشابك للقبائل المؤثرة في الصراعات السياسية التشادية، والقاعدة الخلفية التي انطلقت منها جميع الانقلابات العسكرية التي حدثت في تشاد، كما أن الإقليم يعد أيضا نقطة تماس مع ما يعرف بالحزام الفرنكفوني (تشاد - النيجر - أفريقيا الوسطى - الكاميرون)، وهي الدول التي كانت تحتلها فرنسا في عهد الاستعمار القديم.

والجذور الحقيقية لتفاقم أزمة دارفور تكمن في حالة من الفقر، واختفاء التنمية في الإقليم الذي يحتضن 7 ملايين سوداني يعيشون على 510 آلاف كيلومتر مربع ويجاور 3 دول أفريقية وبه ثروات هائلة، منها 7 مليارات برميل نفط احتياطي، إضافة إلى اليورانيوم، وثروة حيوانية هائلة.

وإذا أرادت الخرطوم أن تنهي أزمة دارفور عليها أن تبني على ما تم الاتفاق عليه في الدوحة وأن تتبنى البرامج الواقعية لتنمية الإقليم اقتصاديا واجتماعيا وتوفير الخدمات الضرورية.

وعلى الدول العربية أيضا حث المجتمع الدولي على عقد مؤتمر دولي من أجل التقريب بين الخرطوم والجماعات المقاتلة في الإقليم، حتى تكون الحلول من أجل أبناء دارفور عامة وليس لتحقيق مصالح فئوية أو أطماع دولية أو إقليمية.. وعلى المجتمع الدولي الاستفادة من المبادرة التي أطلقها الرئيس البشير بعد فوزه بالرئاسة، حيث قال: «ملتزمون بإجراء استفتاء الجنوب في موعده، واستكمال سلام دارفور، وإنني سأكون رفيقا لجميع السودانيين، وأيدينا وعقولنا مفتوحة لكل لقوى العاملة في إطار الدستور للتواصل والتحاور والتشاور لتأسيس شراكة وطنية نواجه بها التحديات».

.. فهل تصدق النوايا لإنقاذ السودان؟!

*رئيس مركز الخليج للأبحاث.