السيستاني.. يخشى المسافة

TT

بصوت وجمل متشابهة، خرج قادة القائمة العراقية، على رأسهم إياد علاوي، من لقائهم الأخير بالمرجع الشيعي الأكبر السيد علي السيستاني، وهم يرددون كلمة واحدة: «المرجع السيستاني على مسافة واحدة من الجميع، ليس مع طرف سياسي عراقي ضد طرف». بل إن رافع العيساوي، أحد أبرز قادة «العراقية»، حذر من يدعي من الأطراف السياسية العراقية بأنه يحظى بدعم خاص من السيستاني، وقال: «لا يوجد فيتو بالنص على أحد».

قبلها بيومين قال الرئيس جلال طالباني إن توحيد الصف الشيعي تم بتشجيع من المرجعية في العراق وإيران. وحتى نكون دقيقين فإن طالباني يعتبر هذا الأمر شيئا إيجابيا لأن تقليل مساحات الاختلاف وتوحيد الصفوف هو من أجل الصالح العراقي العام، وهو هنا يتحدث عن دور قيمي إرشادي يقوم به كبار مراجع الدين لدى الشيعة. كما في حواره بهذه الجريدة مع الزميل معد فياض.

من الواضح أن للمرجعية الشيعية، بقيادة السيد السيستاني، ثقلا كبيرا في الحياة السياسية العراقية وصراعاتها اليوم، قد يعجب هذا الأمر البعض وقد لا يعجبهم، سواء من منطلق علماني أو منطلق طائفي سني، ولكن المهم هنا أنه دور موجود وحيوي، وإلا لما هرع العلماني إياد علاوي برفقة اثنين من العرب السنة إلى مقر الحوزة بالنجف للتعرف على موقف كبير الطائفة السيستاني ورموز المرجعية الثلاثة الآخرين (إسحاق الفياض وبشير النجفي وسعيد الحكيم.. رغم أنهم لم يلتقوا بالأخير).

في حواري مع واحد من أهم المتخصصين في الفكر السياسي لدى الشيعة، أخبرني أن موقف السيد السيستاني يختلف عن موقف الثلاثة الآخرين (الفياض والنجفي والحكيم)، فهو أكثرهم تسامحا وأقربهم إلى منطق الدولة الحديثة، وأكثرهم تشعبا في الاطلاع ومعاصرة، وقصارى ما يريده السيستاني، وفق محدثي، هو التمسك بالدستور الحديث الذي ارتضاه العراقيون، وعدم الخروج عليه. هو راضٍ تماما عن هذا الدستور ويعتبره كافيا لصلاح الأمور في العراق. بلغة أخرى، هو ليس مشغولا بإقامة دولة الولي الفقيه، باعتبار أنه ليس مع نظرية ولاية الفقيه العامة حسب التوجه الخميني، رؤيته لولاية الفقيه محصورة بالشأن الديني والفتوى والولايات الخاصة. بينما المراجع الآخرون لديهم ميول إلى دعم القائمة الأكثر تمثلا للخطاب الديني. وكلما كان هذا التيار السياسي الشيعي أو ذاك أكثر التصاقا بمفردات الخطاب الديني ووعدا بأسلمة الدولة، حظي أكثر بدعم هؤلاء. ومن هنا أتى دعم الائتلاف الوطني العراقي، بالذات جماعة المجلس والحكيم.

المفارقة كما يقول لي الخبير بالفكر السياسي الشيعي، هو أن نوري المالكي الذي حظي بأكبر عدد من أصوات الشيعة في الانتخابات البرلمانية، لا يقلد دينيا أحدا من هؤلاء المراجع، فهو وإبراهيم الجعفري، باعتبارهما من حزب الدعوة، يقلدان المرجع الديني اللبناني الشهير محمد حسين فضل الله، لأسباب تاريخية وسياقات نشأة الحزب المعروفة. ولذلك فإن الثقل السياسي، لا الكمية العددية، ليس في صالح نوري المالكي قياسا بمجلس الحكيم أو حتى التيار الصدري، الذي هو على خلاف معلن مع مرجعية السيد السيستاني.

المهم في هذا كله هو أن موقف الرجل الأهم، السيد السيستاني، ليس سيئا، ويمكن البناء عليه واستثماره باتجاه خلق خطاب سياسي وطني، كأن المرجع الكبير يقول: لست معنيا بتفاصيل الأحزاب وأسماء الرؤساء، فمعركتي كانت في الخطوط الكبرى، أي الدستور. وبالفعل كان السيستاني نشطا وفاعلا في مخاضات كتابة الدستور العراقي، ولكن بعد ذلك خف نشاطه السياسي التفصيلي، خصوصا في هذه المرحلة التي اندلع فيها الخلاف داخل الخيمة الشيعية نفسها، بين المالكي وبقية خصومه من الأحزاب الشيعية.

قلت في البداية ربما يتشاءم الإنسان من هذا الاستحضار المسرف لرمزية رجل الدين في عراق ما بعد البعث، ولكن أرى أنه حسنا فعل علاوي ورفاقه في محاولة نزع هذه الورقة المقدسة مع المنافسين السياسيين، من أجل القول: لا تقحموا المرجعية بما تمثله من ثقل معنوي في الصراع والتنافس بيننا على السياسة.

هذا هو الحال في العراق الآن، الكل يسن سكاكينه ويستل أوراقه، المقدس منها وغير المقدس، للتربع على كرسي الحكم والسلطة. ليس معنى هذا الكلام تشجيع ومساندة جماعة علاوي والقائمة العراقية، فالأمر أبعد من هذا. إنه يتعلق بتلمس هذا الدور السياسي الكبير لرجال الدين في العالم الإسلامي.

وحتى نغلق القصة العراقية في هذا المقال، لا بد من القول أيضا إن الكل، سنّة وشيعة وأكرادا، يتحدثون عن أنهم ضد الطائفية ومع العراق الواحد وتشجيع الوطنية. ولكنه مجرد كلام، لا يلقى رصيدا كبيرا من الواقع، فمهما كان الموقف الايجابي، وقد سبق أن قلناه، حول رمزية فوز القائمة العراقية بالعدد الأكبر من الأصوات، على مستوى العراق، كونها قائمة تنادي بالعراق العابر للطوائف والعرقيات، والمنادي بالهوية العراقية المدنية للجميع، على قدم المساواة، إلا أن العمود الفقري لقائمة علاوي كان من العرب السنّة، وعليه فلم نصل بعد إلى تحقيق المطابقة بين الشعار والواقع في اختراق الطائفية والعرقية، ولكن تظل محاولة القائمة العراقية خطوة في الاتجاه الصحيح علّها تشيع عدوى إيجابية بين العراقيين في محطات مقبلة.

وبعد: هل دور الرموز الدينية في الحياة السياسية العربية مفيد أم ضار؟

ومَن يجلب مَن للسياسة؟ هل السياسي العربي هو من يستعين برجل الدين من أجل الاستقواء على خصومه أو من أجل تمرير سياسات معينة تجاه الجمهور أو المخالفين، أم أن رجل الدين نفسه هو من يقتحم الميدان ويفتي في السياسة ويحاول التأثير فيها عبر مساندة طرف ضد طرف أو خلق محاور قوى رديفة له، باختصار عبر تحوله إلى لاعب سياسي؟

مَن يجلب مَن؟

أسئلة متشعبة يولد بعضها من رحم بعض، لكنها تحتاج، قبل كل شيء، إلى ترسيم واضح الحدود لمعاني الأوصاف والكلمات التي نستخدم، فمن هو رجل الدين، وما الفرق بينه وبين «المثقف الإسلامي»؟ وما هي السياسة؟ وما الفرق بينها وبين النشاط في المجال العام، الذي قد يتقاطع مع السياسة؟

سأتوقف فقط عند وصف «رجل الدين». باختصار شديد، وربما مخلّ، أقول: رجل الدين هو من تفرغ للتعليم الديني ورعاية ديمومة هذا التعليم ونقله من جيل إلى جيل، إنه باختصار «وسيط زمني» ينقل وصايا الأولين وتعاليم السالفين إلى الجيل اللاحق، ويرعى هموم المؤمنين الدينية وربما المشكلات الاجتماعية، وقد يتصدى بالرد على من يشكك في المسلّمات حسبما يراها.

لاحظوا أننا نتحدث عن دور رجل الدين من دون أن نتوقف عند التحولات الكبرى التي طرأت على وظيفة رجل الدين في العصر الحديث، أعني أنه كان في السابق يندمج في شخص رجل الدين دور المفتي والقاضي والمصلح الاجتماعي والخطيب السياسي ومستشار الدولة، وربما استشاري نفسي يعالج العلل النفسية، ومعلم محترف، إضافة إلى أدوار أخرى متعددة.

كان هذا قبل أن يوجد التخصص الحديث وتنشأ الدولة العلمانية أو شبه العلمانية، أو لنقُل الدولة الحديثة كوصف أدق، فبدأت تنكمش أدوار رجال الدين. فهناك علم كامل وغني حول النفس، وهناك علم اجتماع، وهناك «علوم» سياسة، وهناك تعليم حديث، وقد تعقدت الدولة عما كان يفهمه سلف رجل الدين المعاصر، فكيف يوائم نفسه مع هذه التحولات؟!

بعض رجال الدين فضل العزلة والانحصار في التعليم الديني ورعاية شؤون الإفتاء فقط، وبعضهم حارب كل جديد قلص من مساحة نفوذه السابق، وهذا شيء طبيعي لا يقتصر على رجل الدين، بل هو سلوك عام يحكم كل فاقد لنفوذ ما، وبعضهم، وهم الأهم، طور من قدراته الخطابة والتأويلية باتجاه يكفل بقاء دور رجل الدين السابق في قيادة المجتمع ومشاركة السياسي في قيادة الدولة، ولكن بنسخة حديثة.

هل هذا جيد؟

ليس مهمّا كونه جيدا أم لا، المهم أنه موجود، وهو جيد أو سيئ بقدر ما يكون خطاب رجل الدين الجديد مع أو ضد مفاهيم التسامح والوطنية ودولة القانون.. لكن ليس على غرار دولة السيد المالكي.

أما السيد السيستاني، وفي ظل هذه التعقيدات والتدخلات بين الدين والسياسة والتاريخ والمصالح، فحسنا يفعل للجميع إن هو ثبت على مسافته الواحدة من الجميع، متحاشيا أي خلل بنسب المسافات ورافضا: «المسافة.. والسور والحارس».

[email protected]