أزمة عالمية جديدة!

TT

يا إلهي، أما آن لهذه الأزمات أن تنتهي؟! فلم نفرغ من الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية التي بدأت في منتصف سبتمبر (أيلول) 2008 بسقوط أسواق المال في نيويورك بعد مجموعة من الإفلاسات المتعاقبة في البورصة، حتى جاءت أزمة جديدة ظهرت مقدماتها وأعراضها في اليونان، ولكنها بدت متأصلة في أوروبا كلها. ولا أدري شخصيا كيف سيواجه الخبراء الأوروبيون كثيرا من دول العالم الثالث ويعطونهم دروسا في المحاسبة والشفافية وحسن إدارة الموارد العامة بعد ما تكشف من أسرار الإدارة الاقتصادية الأوروبية. ولا يوجد أحد يعلم كيف جرى ما جرى في اليونان، بينما «الهيئة الأوروبية» - تلك الهيئة التي تدير الاتحاد الأوروبي - موجودة بأدواتها الرقابية، ومعها مؤسسات أخرى إقليمية مثل البنك المركزي الأوروبي، وعالمية مثل صندوق النقد الدولي. ولا أعلم كيف ستتغير الخريطة السياسية الأوروبية بعد نهاية هذه الأزمة، والحقيقة هي أن كل الأزمات تنتهي بشكل أو بآخر، إذا كانت ألمانيا هي التي ستتولى الجانب الأكبر من عملية الإنقاذ الأوروبي، حتى لو كان ساركوزي في باريس وبرلسكوني في روما، يتفاخران بالدور الذي قاما به في عملية الإنقاذ، والذي لم يتعد إقناع أنجيلا ميركل - المستشارة الألمانية - بأن تدفع برلين الجزء الأكبر من 750 مليار يورو ثمنا لإنقاذ القارة والاقتصاد العالمي كله. ومن المؤكد أن الأزمة هكذا تعطي دورا متزايدا لألمانيا في السياسة الأوروبية والعالمية أكثر مما كان قبلها، ومن يقول إن ألمانيا سوف تحقق أهدافها في الحرب العالمية الراهنة سوف يكون مبالغا، ولكنه لن يكون بعيدا عن الحقيقة بمسافة كبيرة.

وببساطة فإن العالم يشهد تقلصات كثيرة، وربما لم يكن ذلك جديدا على الدنيا، وما يحيرنا هو أن العلوم والأدوات التي نستخدمها في التحليل تعطينا أنصاف حقائق في وقت يتغير فيه الكون بسرعة مخيفة، خاصة بعد أن تحولت الأزمات المحلية أو الإقليمية إلى أزمات عالمية. فقد واجه العالم في الثلاثين عاما الأخيرة أزمات اقتصادية عديدة، وتشير إحصاءات صندوق النقد الدولي إلى أنه خلال الفترة من عام 1970 وحتى عام 2007 وقعت نحو 124 أزمة مصرفية، و208 أزمات كبيرة في سوق الصرف الأجنبي، ونحو 63 أزمة دين عام. لكن الأزمة الاقتصادية التي اجتاحت العالم بدءا من صيف عام 2007 كانت الأكبر في حجمها وتداعياتها على الاقتصادات العالمية. وكانت هذه الأزمة نتيجة حتمية للعديد من الممارسات السلبية التي طالت النظام الائتماني والعقاري على مستوى العالم، فقد اتجه العديد من المؤسسات إلى إعداد عقود «ملتوية» لإغراء محدودي الدخل بشراء عقارات جديدة، وهو ما أدى في البداية إلى اندفاعهم للحصول على هذه العقارات بشكل رفع من أسعارها، فاتجهوا للاقتراض من البنوك بضمان العقارات التي لم يمتلكوها أصلا. وقد وجدت البنوك في ذلك فرصة لزيادة أرباحها، ولم تكتف بالتوسع في تقديم القروض وخفض الفائدة، بل سارعت إلى الاستعانة بشركات التأمين لمواجهة مخاطر الإفلاس مع استخدام احتياطاتها لتقديم مزيد من القروض. لكن الزيادة المطردة في صناعة العقارات وما ارتبط بها من صناعات أخرى أدت إلى انخفاض قيمة العقارات عن قيمة القروض، وهو ما دفع المقترضين إلى الإسراع بالتخلص من العقارات، بشكل أحدث انخفاضا جديدا في أسعارها. ووجدت البنوك نفسها تستحوذ على عقارات أقل في قيمتها من القروض التي قدمتها، وهو ما أدى إلى إفلاس العديد منها مثل بنك «ليمان براذرز»، وسرعان ما امتدت الأزمة إلى شركات التأمين، حيث أعلنت شركة «إيه آي جي» عجزها عن الوفاء بالتزاماتها إزاء 64 مليون عميل تقريبا. وقد سارعت الإدارة الأميركية إلى محاولة إنقاذها من خلال تقديم منحة بقيمة 85 مليار دولار مقابل امتلاك 79.9% من رأسمالها.

لكن هذه الأزمة بقدر ما أنتجت تداعيات سلبية ضخمة على العديد من الاقتصادات العالمية، حيث أدت إلى تراجع معدلات النمو الاقتصادي في معظم دول العالم، وإعادة هيكلة الاقتصاد العالمي وأحدثت تغييرا في خريطة القوى الاقتصادية على مستوى العالم، بقدر ما أفرزت إيجابيات عديدة أهمها أنها ساعدت على كشف العديد من الممارسات السلبية التي اتسمت بها التعاملات المصرفية وأداء أسواق المال العالمية، وفوقها ضعف الرقابة المالية والنقدية وعجزها عن تحييد آثار هذه الممارسات، وفشلها في طرح آليات فعالة للقضاء عليها أو حتى توقع تداعياتها السلبية التي كانت كارثية لعدد كبير من دول العالم. وتبدو الأزمة الطاحنة التي تواجهها اليونان في الفترة الحالية ترجمة واقعية لبعض هذه الممارسات السلبية التي أبرزتها الأزمة الاقتصادية العالمية.‏

وقد أثارت الأزمة اليونانية مخاوف عديدة، سواء لجهة احتمال تسببها في تعرض العديد من البنوك العالمية لاسيما الفرنسية والألمانية صاحبة القسم الأكبر من الديون اليونانية للانكشاف، أو لجهة إمكانية انتقالها إلى العديد من الدول الأوروبية لاسيما البرتغال وإسبانيا وإيطاليا، بل إن بعض التقديرات ترشحها إلى تجاوز القارة الأوروبية والانتقال إلى الولايات المتحدة الأميركية وربما دول جنوب المتوسط. وقد قامت بعض المؤسسات المالية الدولية مثل مؤسسة «ستاندرد آند بورز» الأميركية للتصنيف الائتماني، في 27 أبريل (نيسان) 2010، بتخفيض التصنيف الائتماني لكل من اليونان والبرتغال، تبعتهما إسبانيا في 29 من الشهر نفسه، وهو ما يمكن أن يتسبب في حدوث اضطرابات كبيرة في منطقة اليورو. والمعضلة هنا أن المرض مستشرٍ، فعجز الموازنة في أيرلندا 11.7%، والمديونية 77.3 %، وفي إيطاليا فإن العجز 5.3% بينما المديونية وصلت إلى 118.2%، والحقيقة هي أنه لا توجد دولة أوروبية واحدة في منطقة اليورو حافظت على نسبة العجز المطلوبة وهي 3%، ولا قدر المديونية المحتمل وهو 60% من الناتج المحلي الإجمالي.

ونتيجة خشيتها من تصاعد الأزمة وامتدادها للدول الأخرى، بدأت دول منطقة اليورو في الإسراع بطرح حلول للأزمة، حيث عقد قادة دول منطقة اليورو، في 7 مايو (أيار) 2010، قمة استثنائية ببروكسل، وهي المرة الثانية منذ تأسيس منطقة اليورو عام 1999 التي يجتمع فيها قادتها من دون نظرائهم الباقين في الاتحاد الأوروبي. وقد عقدت أول قمة لمنطقة اليورو بباريس في خريف 2008 وتركزت حول أزمة البنوك. وقد صادق قادة دول منطقة اليورو في قمتهم الاستثنائية على حزمة مساعدات بهدف إنقاذ اليونان وبدعم من صندوق النقد الدولي بلغت قيمتها 110 مليارات يورو (نحو 147.6 مليار دولار)، حيث سيتم توفير 80 مليار يورو منها عبر قروض ثنائية يتم الحصول عليها من دول اليورو، بينما سيوفر صندوق النقد الدولي الـ30 مليارا الباقية. وتقضي الخطة بحصول اليونان على تلك القروض في صورة دفعات حتى عام ‏2012. وكان من المفترض أن يبدأ تقديم هذه القروض في موعد أقصاه 19 مايو الحالي وهو الموعد الذي يتوجب على اليونان تسديد 9 مليارات يورو لدائنيها. وقد تسلمت اليونان بالفعل دفعة أولى بلغت 5.5 مليار يورو من صندوق النقد الدولي في 12 مايو 2010. هذه الخطوات الأوروبية تأتي بالتوافق مع الإجراءات الجديدة التي بدأت الحكومة اليونانية في اتخاذها لمعالجة الأزمة.

ويبدو من النظر إلى كل ما سبق أن الأزمة هذه المرة راجعة إلى الأسباب التقليدية التي عرفناها في الأزمة العالمية التي لم تعد «سابقة» بعد، لكن لم تكن هي وحدها سبب ما جرى، حيث يضاف لها تلك المفارقة القائمة داخل الاتحاد الأوروبي ما بين السياسات المالية التي يضعها البنك المركزي الأوروبي، والسياسات المالية والاقتصادية التي تضعها حكومات دول لا تزال «ذات سيادة». والحل هنا إما أن تنفك رابطة اليورو أو يدخل الاتحاد الأوروبي إلى مرحلة جديدة من الاتحاد. هذا الاحتمال الأخير هو المرجح مضافا إليه مكانة خاصة لألمانيا هذه المرة!.