(كونكيري)

TT

هل سمع أحدكم يوما (زقزقة) الطيور؟! أو - بتعبير ألطف - (تغريد) الطيور؟!، وقد غيرت الكلمة عامدا لأنني أعرف التفكير المنحرف عند بعض الناس.

طبعا الكل سمع ذلك، وليس هناك من بشر على وجه الأرض إلاّ وسمعه، ولكن السؤال هو: هل هناك من تدبّره وحاول أن يحل ألغازه؟!، أنا من هؤلاء، وقد استطعت بعد جهد جهيد أن أعرف أن الديك عندما يصيح فهو ينادي على المخاليق أن الفجر قد حل وأن الشمس على وشك الشروق، كما أن الدجاجة حينما تجري و(تكاكي) فمعنى هذا أنها على وشك أن تبيض.

إن هناك سحرا عجيبا غريبا غامضا في أصوات الطيور، إنها لغة بدون كلمات، أو هي كلمات بدون لغة، وقد أصغيت كثيرا وطويلا لأصواتها، وقضيت الساعات تلو الساعات جالسا القرفصاء كـ(بوذا) أصغي لأصواتها إلى درجة أن أهل بيتي بدأوا يشكّون بقواي العقلية، معتقدين أنني أستحضر أرواح الشياطين والجن، وما عرفوا أنني أستمتع بأعذب (سيمفونية) أوجدها الله على سطح الأرض.

وعرفت أن زغردة طائر الكناري مثلا متموّجة، وأن طائر (الشحرور) عندما يرفع عقيرته مغردا (كونكيري) فإنه في هذه الحالة ينادي على عشيقته قائلا لها: «ها أنذا هنا، تعالي سريعا ولا تتأخري» ولا أكذب عليكم أن هذا النداء قد أعجبني جدا فأصبحت أستعمله في حياتي العملية كلما داهمتني حالات الغرام الفجائية التي لا ترحم.

وبما أن الشيء بالشيء يذكر، فالآن فقط تذكرت موقفا حصل قبل عقدين من الزمان، عندما كنا شلة من الأصدقاء الذين لم يفتح الله عليهم أبدا إلى هذه الساعة، وقد ذهبنا إلى قاهرة المعز، واستأجرنا هناك شقة مفروشة، وكان أكثرنا عقلا هو أفسقنا أخلاقا، المهم (ما لكم بطول الحكي)، واكتشفت أنا بحكم تعلقي دائما بمراقبة الشوارع وكأنني عسكري مرور، اكتشفت أن العمارة المواجهة لنا، وبالدور الثالث وفي (البلكونة) تحديدا كان هناك قفص فيه (ببغاء)، هذا الببغاء الفاجر كان يرصد خروج بنات الإعدادية والثانوية من مدرستهن القريبة وقت الظهيرة، فيمطرهن بالتصفير وكلمات الغزل الفاضحة، ومن شدة إعجابي به، ذهبت إلى تلك الشقة وضربت الجرس، وفتحت لي الباب امرأة عجوز طيبة، وعرضت عليها شراء الببغاء لكي أحقق بواسطته بعض مآربي البريئة، ولكنها اعتذرت مني بأدب قائلة: إنه يذكرني برائحة المرحوم.

ولا أدري إلى الآن ما دخل هذا الطائر برائحة المرحوم؟!

كما أنني لا أدري وكذلك أتساءل: هل يا ترى أن ذلك الببغاء هو الذي تعلم الصفير وكلمات الغزل المشبوبة نحو بنات المدارس من السيد المرحوم، أم العكس هو الصحيح؟!

وفي الختام أنادي وأقول: (كونكيري)، ومن أرادت أن تجيب على ندائي فلتتفضل على الرحب والسعة، وسأضع أحد أجفاني لها فرشا، والآخر (بطانية) ثقيلة تكتم على أنفاس أبو جد جدها.

[email protected]