لا جديد في هذا الزحام

TT

إذا ذكرت اسم القاهرة أمام أي إنسان، خطرت له، على الفور، صورة الزحام، سواء كان يعرف المدينة أو لا يعرفها. وثمة مدن كثيرة أكثر ازدحاما منها، مثل مكسيكو أو دلهي أو مومباي. لكن القاهرة اتخذت هذا الطابع باسم كل المدن الأخرى! ويعتقد كثيرون أن صخب القاهرة بدأ بعد الثورة والتأميم وزحف الفلاحين من الأرياف. وهذا غير صحيح. لقد ولدت هذه المدينة من رحم الازدحام والتكاثر. وفي عام 1384 كتب زائر إيطالي يدعى السنيور فرسكوبالدي أن «هذه المدينة، المعروفة بالقاهرة، فيها من السكان أكثر مما في مقاطعة توسكانا».

كانت القاهرة أكبر سوق على النيل وأوسع ملتقى للناس واللاجئين والمهاجرين والعلماء والزوار. وكان عدد سكانها في القرن الرابع ما بين 500 إلى 600 ألف نسمة، أي ستة أضعاف مدينة تونس وأكبر 15 ضعفا من لندن في ذلك الوقت. وكانت لذلك أسباب كثيرة، منها، فيما بين القرنين الثالث عشر والرابع عشر، أنها كانت عاصمة المماليك والمقر الرئيسي للطبقة التركية الحاكمة. كما كانت النقطة الرئيسية على تقاطع «طريق البهارات» من البحر الأحمر إلى النيل، وكذلك على طريق الحج للقادمين من بلاد المغرب وبعض أفريقيا.

ولعل أحد أهم الأسباب أيضا أن حكامها صدوا هجمات المغول وأنقذوا السكان من المجازر الماحية التي تعرضت لها بغداد ودمشق. بل أصبحت أواخر القرن الثالث عشر الملجأ الرئيسي لآلاف العراقيين والسوريين الذين فروا جماعات من زحف التتار المريع.

ورغم توسع وتمدد القاهرة في كل الاتجاهات، كما هو الحال الآن، فقد فضلت الأكثرية العيش في ازدحام القاهرة الداخلية، أو قاهرة ما داخل السور القائم على بعد كيلومترين تقريبا من النيل، والتي أسسها الفاطميون في القرن العاشر، فأخذت تنمو كمركز للعلوم والتجارة حتى فاقت بكثير «الفسطاط»، أو مصر.

يروي رحالة تلك المرحلة أن داخل السور كان عبارة عن حركة دائمة وكثيفة من الناس والجمال والعربات «بين القصرين» التي سوف تصبح ذات يوم إحدى أهم مراحل نجيب محفوظ وعنوانا لإحدى رواياته التي حملته إلى نوبل الآداب.

وقد قامت حول «بين القصرين» يومها أكثر من ثلاثين سوقا، تختص كل منها بتجارة معينة: حدادون، تجار مجوهرات، صانعو شموع، منجدون، تجار رقيق، وجيوش من البائعين المتجولين وبائعي الأطعمة. وامتلأت المدينة أيضا بالفنادق المزدحمة بالتجار القادمين من كل مكان. وأكثر هذه الفنادق، أو «الخانات»، كانت عبارة عن أعمال هندسية جميلة. كما كانت لكل فئة من زوار القاهرة فنادقها: مجموعة للمغاربة والفرس والأوروبيين، وسلسلة ضخمة للسوريين تستطيع استقبال 4 آلاف شخص.

تلك هي القاهرة منذ قيامها. فلا عجب أن ينشأ فيها اتجاه سكاني جديد، هو الاتجاه نحو ما كان في الماضي منتهى الحياة، فأصبح ذروتها. المدافن.