ورحل فتوة الناس الغلابة!

TT

رحل عن عالمنا أمير مملكة الضحك وسلطان الكتابة الساخرة الكاتب الكبير والصحافي الأمين محمود السعدني، الذي كان مولده في مركز الباجور بمحافظة المنوفية بدلتا مصر، هذا المكان الذي أخرج لمصر أعلاما في الفن والفكر والسياسة. وبرحيل الكاتب الكبير محمود السعدني، تختفي البسمة من شارع الصحافة وترتدي صاحبة الجلالة السواد مثلما فعلت مصر كلها بمجرد وفاة ابنها السعدني...

هذا الولد الشقي الذي ملأ الدنيا كلها ذهابا وجيئة مدافعا عن البسطاء وعن حرية الرأي والكلمة، ودفع ثمن مواقفه غاليا من حريته وصحته. لم يندم السعدني في يوم على كلمة كتبها، أو رأي قاله في زعيم أو رئيس.. أحب عبد الناصر رغم أنه اعتقل وسجن في عهده.. واختلف مع السادات واضطر إلى الحياة بعيدا عن الوطن إلى أن جاء الرئيس محمد حسني مبارك وأمر بعودته إلى وطنه وعمله.

عاش الولد الشقي حياة مفعمة بالأحداث والثورات والإخفاقات والنجاحات، فكان تفاعله معها بإطلاق قلمه ليرسم صورة لها من زاوية لا يراها إلا السعدني ولا يصل إليها إلا السعدني.. وعندما تقرأ له وبعد أن تضحك كثيرا، تتعجب كيف لم تر ما رآه السعدني من هذا الجانب الساخر في هذه الأحداث التي عشناها ولم نشعر بأي وجه للسخرية فيها، كانت روحه - رحمه الله - طليقة تسبح في نسيج المجتمع المصري الذي رأى فيه السعدني خلاصة للروح الإنسانية.. صادق كل طبقات المجتمع ولم يشعر بذاته إلا مع المعلم صاحب المقهى وصبيه، والآخر صاحب الجزارة، وشخصيات لمدرسين وصحافيين جاءوا من قاع المجتمع بحثا عن دور أو إثباتا لذات، مع كل هؤلاء تفاعل السعدني وأثر في كل من حوله، ومنهم أخوه الصغير صلاح السعدني، الذي اعترف وقال إن ما رسمته من شخصيات برعت فيها إنما كان ملهمي الأول هو أخي محمود السعدني.

ولم يكن غريبا إذن وأنا ألتقي محمود السعدني لأول مرة أن يكون لقائي معه على متن الطائرة القادمة من لندن.. وكان محمود السعدني يرتدي جلبابا أبيض من جلابيب المعلمين.. كأنه جزار أو بائع خضار! وعندما تحدثه تجد لديه كنزا من خبرة الحياة.. حتى أكاد أجزم بأن السعدني من القلائل الذين عرفوا معنى الحياة.

وعندما تجد كاتبا اعترف له الجميع بأنه من ظرفاء العصر في حجم الكاتب الكبير أحمد رجب صاحب «نصف كلمة» يقول لي إنه ما من إنسان استطاع أن يضحكه لدرجة البكاء سوى محمود السعدني.. ويعترف أحمد رجب بأن أجمل لقاءات حياته عندما كانت تجمعه مناسبة مع محمود السعدني ومحمد عبد الوهاب..

لم يكن غريبا وأنا أحضر جنازة الفقيد العزيز أن أرى مصر كلها ممثلة في كل طوائفها من أول النخبة وحتى البسطاء.. الكل جاء ليقول: «وداعا الولد الشقي.. أضحكتنا كثيرا.. وعلمتنا كثيرا.. وناصرتنا كثيرا، فلتهنأ راضيا بما فعلته، فقد جئت إلى الدنيا وخرجت منها وقد أحسنت فيها البلاء!».