من قال: لا.. فقد قال!

TT

هذا المنظر الذي نراه أمامنا على الشاشة قد بعث به مرصد هرشل الأوروبي وهو أحدث وأوضح مرصد مداري أطلقه الإنسان ليدور حول الأرض بضع سنوات.. الصورة في حاجة إلى طبيب أشعة أو جراح أو شاعر أو أي إنسان من نوعية لا نعرفها لكي يصف لنا هذا الفوران الضوئي واللوني الذي يتآكل ويبلع بعضه بعضا.. هذه الصورة قد قطعت 15 ألف مليون سنة كي تصلنا.. لماذا؟ لا نعرف.. كيف هذا؟ لا نعرف! ومنذ متى وإلى متى وما المعنى وأين نحن من هذه الكائنات الضئيلة التي تعيش على ذرة اسمها كوكب الأرض الدائرة حول بقعة مضيئة في حجم السمسم اسمها الشمس.

ثم لماذا يتسارع الكون بعيدا.. بعيدا إلى أين؟ وما معنى البعيد والقريب في هذا الكون؟ البعيد عن ماذا والقريب عن ماذا؟.. وإذا كان الكون منذ خلقه الله لا يزال يتسع فإلي أين؟.. هل هذه هي البداية أم هي النهاية أم بداية النهاية أم نهاية البداية؟..

وعبارة «لا أعرف» هذه هي أصل كل الحضارات الإنسانية. ففي العصور الوسطى كانت الكنيسة متسلطة على العقول فتحجرت.. وصارت آسنة فاسدة.. ولم تعرف الحضارة الأوروبية يقظتها وثورتها إلا بعد أن نفضت عن دماغها الأفكار الكنسية.. وإلا بعد أن رددت عبارة سقراط: أنا أعرف أنني لا أعرف.. أي إن الذي أعرفه قليل والذي أجهله كثير.. ولست «متأكدا» من كل شيء..

ثم عبارة أخرى كانت إعلانا لثورة العقل على العقل.. عندما اختفت هذه الكلمات الثلاث: هكذا قال أرسطو.. فقد كانت هذه العبارة إذا جاءت في أي مناقشة فالمعنى: إلى هنا يجب أن نتوقف عن التفكير. فأرسطو قد فكر لنا ومات منذ عشرين قرنا.. اختفت هذه العبارة وظهرت عبارات أخرى كثيرة وأسماء عظماء في كل العلوم.. جاءوا من بعد أرسطو.. وانفتحت كل الأبواب والسماوات وتكسرت كل القيود وأطلق العقل نفسه من عقاله.. ولم يعد يجد عيبا في أن يقول: لا أعرف..

وكان الأقدمون يقولون: من قال «لا» فقد أفتى.. أي من قال «لا» فهذا قول وهذا رأي.. وسيحاول الإنسان أن يسأل أكثر ويجيب.. وما دام الإنسان يندهش وينبهر ويتساءل فهو على الطريق الصحيح، لأن الدهشة هي بداية المعرفة!