العودة لمبادرة ولي عهد البحرين تستدعيها المستجدات الإسرائيلية الداخلية

TT

لولا انضمام رئيس الأركان الإسرائيلي السابق الجنرال الاحتياط دان حالوتس إلى ما يعتبر معسكر السلام في إسرائيل وانحيازه المفاجئ إلى «لوبي» الاعتدال، الناشئ في أوساط الفعاليات والقوى الإسرائيلية المؤثرة، لما كانت هناك حاجة لفتح صفحة ضرورة عودة اهتمام الفلسطينيين والعرب إلى الجبهة الداخلية في الدولة العبرية مجددا، فهذه المسألة قيل فيها وحولها الكثير، خاصة خلال مفاوضات محمود عباس (أبو مازن) مع إيهود أولمرت وعشية استئناف المفاوضات غير المباشرة التي هناك معلومات مؤكدة عن إحرازها بعض التقدم بالنسبة لقضيتين من قضايا «الوضع النهائي» وهما: الأمن والحدود.

أما وإن «دومينو» تغيير القناعات في إسرائيل قد وصل إلى الرجل الذي كان يعتبر أحد أكثر المتطرفين تشددا، والذي كان أدلى بتصريحات «فاشية» فعلا تعليقا على دوره في اغتيال قائد «حماس» العسكري السابق صلاح شحادة، قال فيها: «أشعر مثلما أشعر وأنا أقود الطائرة وقد ارتطم عصفور صغير بجناحها»، فإنه لا بد من العودة إلى فتح صفحة «الجبهة الإسرائيلية الداخلية» مجددا ومطالبة الفلسطينيين أولا والعرب ثانيا بضرورة العمل على هذه الجبهة بنفس جدية العمل على الجبهة الأميركية والدولية، إنْ ليس من قبل الدول العربية كلها، فمن قبل بعضها على الأقل.

حسب هذه الجريدة الطليعية، أي «الشرق الأوسط»، قال حالوتس في محاضرة في «الجامعة متعددة المجالات» في هيرتسيليا إن «مبادرة السلام العربية تنطوي على بعد تاريخي، وتصلح أساسا للسلام بين إسرائيل والدول العربية والإسلامية.. وإذا تعاطفت معها الحكومة الإسرائيلية بشكل إيجابي فإنه يصبح في الإمكان تغيير وجه الشرق الأوسط»، لكنه استدرك قائلا: «لكنني متشائم لأن القادة الإسرائيليين الحاليين لا يملكون الشجاعة لاتخاذ قرارات مصيرية».

ولعل ما يثير الاستغراب والاستهجان فعلا أنه لا الفلسطينيون ولا العرب قد أعطوا اهتماما فعليا للتنامي المتلاحق في إسرائيل للاتجاه أو «اللوبي» المؤيد لمبادرة السلام العربية، وهذا إما أن يكون خوفا من ألسنة المزايدين من فرسان شاشات بعض الفضائيات الإخبارية، أو عدم القدرة على التقاط هذه الحلقة الرئيسية في هذا الصراع المعقد الذي يتجاوز العمل الجدي على مساراته أهمية المقاومة المسلحة حتى عندما كانت هناك مقاومة مسلحة فعلية.

والمستغرب أيضا أن غالبية العرب وغالبية الفلسطينيين لم يأخذوا على محمل الجد؛ إما لسوء تقدير أو بسبب الإفلاس السياسي وتدني الرؤية على هذا المسار المهم، بروز ظاهرة «J.street» المعتدلة والمؤيدة لحل الدولتين والمناهضة لمنظمة «إيباك» ولهذه الحكومة الإسرائيلية المتطرفة التي على رأسها بنيامين نتنياهو، في أوساط اليهود الأميركيين، وأيضا بروز ظاهرة كبار المفكرين اليهود في دول الاتحاد الأوروبي الذين كان ثلاثة آلاف منهم قد وقعوا وثيقة قبل فترة أعلنوا فيها انحيازهم لعملية السلام وفقا للإجماع الدولي والنأي بأنفسهم عن ممارسات إسرائيل الرسمية ضد الشعب الفلسطيني.

ثم إن المستغرب كذلك أن بعض العرب وبعض الفلسطينيين لم يدركوا أن لحظة تاريخية قد استجدت بالنسبة للصراع العربي – الإسرائيلي، وأن الضمير العالمي على مستوى الدول وعلى مستوى الشعوب، إنْ ليس بالإجماع فبالأغلبية، قد تحرر من احتكار الرواية الصهيونية للتاريخ ولوقائع ما جرى من مذابح نازية ضد اليهود وضد غيرهم خلال الحرب الكونية الثانية، وأنه بات ينحاز إلى معاناة الشعب الفلسطيني واعتبار أن هذا الشعب بات ضحية ما جرى خلال حقبة تاريخية لا علاقة له بها، وأنه يدفع ثمن الجرائم التي ارتكبت في أوروبا ضد أتباع الديانة اليهودية في تلك الفترة المظلمة التي انعدمت فيها القيم وتمادى فيها القتلة والمجرمون في الاعتداء على الحقوق الإنسانية.

وهنا، فإن الحقيقة تقتضي التنويه بأن ولي عهد البحرين الأمير سلمان بن حمد آل خليفة كان قد ألقى بحجر كبير في بركة العرب الراكدة بالنسبة لهذا الأمر المهم، عندما طالب بصوت شجاع مرتفع بضرورة الانفتاح على الجبهة الداخلية الإسرائيلية والتأكيد لرجال الأعمال الإسرائيليين أن مصلحة إسرائيل هي أن تكون جزءا من هذه المنطقة، وأن الحل العادل والشامل سيفتح أبواب الشرق الأوسط أمام هؤلاء للاتجار والاستثمار ومزاولة كل ما يتعلق بالشؤون الاقتصادية.

كان على العرب، وفي مقدمتهم الفلسطينيون، أن يلتقطوا هذه المبادرة وأن يبنوا عليها ويتخذونها رافعة سياسية لتسويق المبادرة العربية؛ إنْ في أوساط الإسرائيليين أو في أوساط الأميركيين والأوروبيين، وكان عليهم أن يحموها ويحولوا بين نبال المزايدين وبينها. لكن هذا لم يحدث إلا في حدود متواضعة جدا، مما أفقد القضية الفلسطينية فرصة حقيقية ليَظهر في إسرائيل المئات، بل الألوف من أمثال دان حالوتس ولتُعطى «J.street» دفعا يمكنها من تجاوز «إيباك» في التأثير على صناع القرار في الولايات المتحدة وليتضاعف عدد المفكرين اليهود الأوروبيين الذين يناهضون سياسات اليمين الإسرائيلي المتطرف ويؤيدون حل الدولتين وفقا للمحددات الدولية.

لكن، ومع هذا، وعلى الرغم من انكفاء العرب المعتدلين، الذين يمسكون بصدق ومسؤولية على جمر القضية الفلسطينية، أمام زمجرات المزايدين على شاشات بعض الفضائيات الإخبارية، فإن تنامي «لوبي» الاعتدال والواقعية السياسية داخل إسرائيل وإن ازدياد أعداد الذين تحررت ضمائرهم من احتكار رواية مَن هم الأشد تطرفا لأحداث التاريخ القديم والجديد، خاصة في أوساط التجمعات اليهودية في الولايات المتحدة وفي أوروبا، يفرضان على الدول العربية وعلى الفلسطينيين التحرك بسرعة للبناء على ما كان طرحه الأمير سلمان بن حمد آل خليفة وإيصال مبادرة السلام التي كانت قد تبنتها قمة بيروت وكل القمم اللاحقة إلى كل بيت إسرائيلي وإلى كل بيت في أميركا وأوروبا والعالم كله.

لا شك في أن الظروف لا تزال صعبة، لكن وبالمقدار ذاته، فإنه لا شك في إمكانية حقيقية للاستفادة من هذه الفرصة التاريخية السانحة، التي إن هي لم تستغل فإنها قد تضيع كما ضاعت فرص سابقة.. إن هناك تحولا جديا داخل الإسرائيليين أنفسهم، وهو تحول واعد في الإمكان المراهنة عليه على الرغم من أنه لا يزال محدودا وخجولا.. ثم إن هناك انتقالا عالميا جديا بالأقوال والأفعال إلى جانب الفلسطينيين وقضيتهم، ويضاف إلى هذا كله أن حماس لم تعد تمارس المقاومة إلا بالأقوال فقط، وهذا يعني أنه لا بد من انتزاع القضية الفلسطينية من يد محمود أحمدي نجاد ومن أيدي جماعته التي تسبح ضد التيار حتى في إيران نفسها، وذلك لانتزاع كل مبررات التشدد من أيدي عتاة التطرف الإسرائيلي خارج وداخل هذه الحكومة «المتحجرة» التي على رأسها بنيامين نتنياهو، لتصبح كل طرق السلام المنشود في الشرق الأوسط سالكة وآمنة.

لقد رفض حالوتس في محاضرته المشار إليها آنفا سياسة «الخطوط الحمراء» التي تستخدم في إسرائيل والمتمثلة في لاءات نتنياهو: «لا لتقسيم القدس. ولا لوقف الاستيطان» وهو قال: «إن مبادرة السلام العربية تصلح أساسا لمفاوضات شاملة، وإن هناك ثمنا يجب أن ندفعه من أجل السلام، وإن هذا الثمن معروف تماما بالنسبة لنا، لكن دفعه سيوصلنا إلى وضع سنقيم فيه علاقات مع جميع الدول العربية والإسلامية، وهذا يضعف إيران إلى حد كبير». وهكذا، ولأن المؤكد أن هذا الرأي ليس رأي هذا الجنرال الإسرائيلي وحده، الذي كان صقرا وأصبح حمامة، بل رأي قطاع مهم من الإسرائيليين، فإنه لا بد من التحرك بسرعة للبناء على مبادرة ولي عهد البحرين التي لم تتوفر لها في وقتها الحماية اللازمة من زعيق المزايدين في بعض الفضائيات الإخبارية المعروفة، فانتهت إلى ما انتهت إليه من جمود، وذلك في الفترة التي كانت فيها القضية الفلسطينية في حاجة إلى مثل هذا الصوت الجريء الواقعي المقبول في كل الأوساط الغربية.