هل ضاع حق النقابي التونسي فرحات حشاد؟

TT

من القضايا التي شغلت الرأي العام في تونس أخيرا قضية اغتيال النقابي التونسي المعروف فرحات حشاد في 5 ديسمبر (كانون الأول) 1952، حيث تضمن شريط وثائقي بثته قناة «الجزيرة» القطرية في الأسابيع الأخيرة، تأكيدات أثارت استياء، وجعلت القضية تطفو مجددا على السطح وكأنها حدثت للتو. ذلك أن الشريط الوثائقي قدم شهادة خطيرة لأنطوان ميليور الذي كان عضوا في منظمة «اليد الحمراء» المتهمة بارتكاب جريمة اغتيال فرحات حشاد.

فالرجل اعترف بصريح العبارة أن حشاد كان يشكل مشكلة عويصة أمام الاستعمار الفرنسي وأيضا عقبة ضد وصول بورقيبة آنذاك إلى السلطة.

وللتوضيح، فإن أصابع الاتهام كافة، سواء من رفاق الزعيم فرحات حشاد أو من عائلته ومن آخرين، كانت تتجه نحو منظمة «اليد الحمراء». وبسبب غياب وثائق وأدلة ملموسة، فإن التهم ظلت مجرد قراءات وسيناريوهات غير مثبتة وظل السؤال القديم يتكرر: هل اغتالت فرنسا الزعيم النقابي فرحات حشاد؟

خيم هذا السؤال عقودا طويلة على النخب في تونس على الرغم من أن النخبة النقابية تحديدا، كانت أكثر من واثقة من تورط فرنسا في عملية اغتياله، لما كان يتمتع به فرحات حشاد، أحد أهم مؤسسي الاتحاد العام التونسي للشغل عام 1946، من شعبية ووطنية عالية ومصداقية وإحساس عميق بحق تقرير المصير وضرورة مقاومة المستعمر وطرده من التراب التونسي والمغاربي ككل.

ولكن ما حصل في الأشهر الأخيرة هو أن فرحات حشاد عاد بقوة ليشغل الرأي العام في تونس وذلك بوصفه قضية لا تسامح فيها، مما يعكس تنامي إرادة معاقبة الذين استباحوا دمه من خلال ارتكاب الجريمة الشنيعة في حقه وحق عائلته وحق القضية التي نذر نفسه من أجلها.

وفي هذا الإطار تعالت الأصوات المستاءة والمنددة وتحركت عائلة فرحات حشاد لرفع دعوى قضائية في محاكم باريس، وكذلك شأن الاتحاد العام التونسي للشغل الذي طالب بالتحقيق في الجريمة، إضافة إلى بعض أحزاب المعارضة من دون أن ننسى تلك الحملة التي شهدها موقع «فيسبوك» لجمع التوقيعات المؤيدة لعريضة، تطالب بفتح التحقيق ومعاقبة أصحاب جريمة الاغتيال.

وفي مقابل هذا الغليان العائلي والمؤسساتي والمدني والإلكتروني، فإن باريس وبأعصاب شديدة البرودة وبنبرة غير بريئة قالت إن القضية المطروحة لا تعنيها وإنها مسألة داخلية تونسية. وهو رد بطبيعة الحال منتظر ويندرج في إطار الموقف الفرنسي العام من موضوع المطالبة بالاعتذار والتعويضات عن حقبة الاستعمار وما تخللها من نهب للثروات ومن جرائم.

ولكن المشكل القائم حاليا، يكمن في صعوبة استرجاع حق فرحات حشاد، باعتبار أن الاعتراف الصريح الذي قدمه أنطوان ميليور أحد أعضاء منظمة «اليد الحمراء»، الذي اعترف بتنفيذه لتعليمات القيادة الفرنسية، قد فقد صلاحيته القضائية. ولقد حلل المؤرخ التونسي خالد عبيد في دراسة له صدرت في مجلة «المغرب الموحد» هذه النقطة مبرزا ما مفاده أن رفع قضية ضد أنطوان ميليور، يُكسب القضية ككل طابعا شخصيا، والمعروف أن الصبغة الشخصية تسقط بالتقادم بعد 30 عاما. والحال أن جريمة اغتيال فرحات حشاد قد مضى على تاريخ ارتكابها حتى الآن 58 سنة، وبالتالي فإن كل جهد يبذل في هذا السياق لا معنى له قضائيا وبالتالي لا جدوى ترجى من ورائه.

وأمام ضياع حق المتابعة الشخصية، فإن الحل القائم الذي لا يتأثر بمسألة التقادم هو سياسي محض، مما يفيد بأن المحاكم الدولية فقط تمثل الطرف المؤهل بالنظر في القضية. لذلك، فإن أصواتا كثيرة مثقفة من ضمنها المؤرخ خالد عبيد، رأت في تضافر الجهود على نحو مغاربي تكتلي، الأسلوب الأكثر عملية وفائدة.

ولا يخفى على الجميع في الوقت نفسه أن موافقة المحاكم الدولية على فتح التحقيق في قضية ذات طابع سياسي ليست مسألة آلية، بل إنها تتطلب وتشترط توفر ملف يكون معززا بالوثائق وثريا بالأدلة مع الأخذ بعين الاعتبار أن شهادة عضو منظمة «اليد الحمراء» عامل مساعد لا أكثر وربما أقل. ولعل التمكن من جمع وثائق مهمة ومُدينة بالفعل هو ما قد يتعذر على الأطراف المعنية بقضية فرحات حشاد؛ إذ إن باريس لا تزال تتكتم على مفاتيح إدانتها وتتحفظ على الوثائق حتى على الباحثين، فما بالنا بمن وجهتُهم المحاكم الدولية.