التعليم من أجل السلام والرخاء في العراق وخارجه

TT

خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي، حضرت حفل تخريج دفعة جديدة من جامعة جيمس ماديسون، ولم يكن هذا الأمر بالغريب، كوني أستاذا هناك، لكن الغريب أن من بين الخريجين التسعة الحاصلين على درجة الماجستير في مجال «العلوم والتكنولوجيا المتكاملة»، كان هناك ثلاثة عراقيين. وقد حظي الثلاثة بدعم كامل من جانب جامعة جيمس ماديسون، وبدت عليهم أمارات الفخر والعزة. وذكرني هذا المشهد بيوم تخرجي من جامعة بغداد منذ 30 عاما.

في معظم الوقت هذه الأيام، يساورني قدر أدنى من التفاؤل حيال أوضاع التعليم في العراق، حيث ظل وطني ونظامه التعليمي يعاني من ظروف عصيبة في السنوات الأخيرة. وباعتباري معلما وأكاديميا، تؤلمني مشاهدة الجامعات العراقية، التي كانت قبلة تعليمية لأبناء المنطقة بأسرها فيما مضى، تكافح الآن من أجل البقاء.

خلال العصر الذهبي للإسلام، كان العراق مركزا للمعرفة، ووقف المفكرون والباحثون داخله موحدي الصفوف، بغض النظر عن الدين أو الجنسية أو اللغة، وراء هدفهم المشترك المتمثل في خدمة ودفع الإنسانية قدما.

وكان خريجو الجامعات العراقية نموذجا للتفوق بمختلف أرجاء الشرق الأوسط، بل والعالم بأسره. وقدمت الجامعات العراقية خدماتها إلى الطلاب العرب والأجانب على حد سواء بغض النظر عن عرقهم أو دينهم.

اليوم، تفتقر الجامعات العراقية لمثل هذه المواهب جراء عمليات استنزاف العقول وأعمال القتل المستهدفة، حيث تشير الإحصاءات إلى أن أكثر من 400 أستاذ جامعي عراقي اغتيلوا وأصبح النظام التعليمي شبه أطلال. على الصعيد الشخصي، فرت شقيقتي، وكانت أستاذة جامعية عراقية، بعدما أضرمت النيران في مكتبها داخل جامعة بغداد في أعقاب الغزو. وتعد شقيقتي واحدة من آلاف الأساتذة والمهنيين العراقيين الذين فروا من العراق خوفا على حياتهم. ومن المؤلم رؤية النظام العراقي الآن في حالة انهيار، حيث يفتقر إلى الأدوات التكنولوجية الحديثة والمنشآت الأساسية، في الوقت الذي تفتح الدول المجاورة معاهد وجامعات متقدمة مع تلاشي ذكريات العصر الإسلامي الذهبي.

ويواجه أعضاء هيئة التدريس الباقين في العراق صعوبات هائلة في وقت يحصلون على حد أدنى من الدعم داخل البلاد ويفتقدون التفاعل مع الخارج بدرجة كافية ويعانون من التجاهل من بقية العالم. وتعد الأمثلة على ذلك كثيرة ومثبطة للعزيمة، ومنها محاولة أساتذة الطب داخل جامعة المستنصرية عقد مؤتمر عبر الهاتف مع أكاديميين من خارج العراق، لكنهم لم يعرفوا بمن يتصلوا.

بوجه عام، يمكن القول بأن الأمن والاستقرار في العراق يعتمد على تعزيز التعليم العالي على مختلف المستويات لتنمية كوادر ماهرة وتوفير شعور بعودة الحياة إلى طبيعتها بين أفراد الشعب، وكلاهما أداتان ضروريتان لبناء مستقبل أفضل في العراق. الملاحظ أن قوة الاحتلال، الولايات المتحدة، تتولى تنفيذ عدد من المبادرات التعليمية داخل العراق، لكن ربما لم تصل البرامج الأميركية لتبادل البعثات العلمية إلا إلى نحو 200 من إجمالي أساتذة الجامعات العراقية البالغ عددهم 34.000 أستاذ، وذلك على مدار الأعوام السبعة الماضية. ورغم أن الولايات المتحدة تملك أكبر وجود أجنبي في العراق، فإن دولا أخرى تبدي مشاركة أكبر في التعليم العالي العراقي. ومن المبادرات التي يعلم بأمرها معظم أعضاء هيئة التدريس الجامعي في العراق تلك التي أطلقتها السيدة الأولى في قطر لدعم تدريب أكثر من 300 أستاذ جامعي عراقي وتمويل شراء معدات لمنشآت تعليمية منذ عام 2003. ونأمل في أن يحذو آخرون حذو هذا النموذج الرائع.

لقد عاينت الحاجة الملحة للتحرك خلال زيارتي الأخيرة للعراق حيث التقيت كثيرا من الأساتذة والإداريين من سبع جامعات. وما تزال أصداء كلماتهم تتردد في مسامعي: «بإمكانك منحنا الأمل وفرصة الاتصال بنظرائنا خارج العراق وتلك هي الخطوة الأولى»، حسبما قال أحدهم. واشتكى آخر قائلا: «لقد تعرضنا للتدمير، وليس هناك من يرغب في تقديم يد العون لنا، ونقف الآن وحدنا». وأشار الكثيرون إلى أن الوعود الأميركية بتوفير مساعدات لم نلتمس منها شيئا. ويمكن معالجة هذا الوضع بوجود التزام قوي من جانب القادة والأكاديميين الإقليميين لإحياء نظام التعليم العالي في العراق.

أعتقد أن هناك عددا من الخطوات التي يمكننا اتخاذها للشروع في تغيير هذا الوضع وضمان الاستقرار على المدى البعيد داخل العراق والمنطقة. تشير الأرقام إلى أن العالم العربي يضم أكثر من 400 جامعة. ويقفز هذا العدد إلى أكثر من 600 جامعة لدى إضافة الجامعات بالدول المسلمة الأخرى. وعبر إنشاء شبكة وقاعدة بيانات بالجامعات المهتمة بمعاونة العراق داخل كل دولة في المنطقة، يمكننا توحيد صفوفنا للتواصل مع ومساندة الشركاء المحتملين الذين بمقدورهم وضع مقترحات مشتركة والتنافس للحصول على التمويل. عبر استثمار نسبة ضئيلة من الإنفاق السنوي العسكري، يمكن لهذا البرنامج الوصول إلى جميع الأكاديميين العراقيين الذين تقدر أعدادهم بـ34.000 شخص في غضون سنوات قلائل. ولا شك أن هذا من شأنه ترك تأثير هائل على طلابهم والمجتمع العراقي بوجه عام، وستأتي ثمار هذا الجهد إيجابية للغاية على نحو يفوق جهود المناورة الأخرى العسكرية والسياسية في المنطقة التي تنطوي على تكلفة أعلى بكثير بالنسبة للموارد المادية والأرواح البشرية التي لا تقدر بثمن.

وبمقدور القادة الإقليميين أيضا دعم إنشاء شبكة للجامعات والمعاهد الفنية ترمي لإعادة دمج المؤسسات العلمية العراقية بباقي العالم، مع التركيز بصورة أساسية على ربط العراقيين بنظرائهم داخل المنطقة. وينبغي أن يجري تنفيذ هذه الجهود على مستوى الأساتذة.

من ناحية أخرى، يشتهر العراق بوفرة الموارد الطبيعية والمعدنية والبشرية لديه، وقد واجه الكثير من عمليات الغزو على مدار تاريخه. وسينهض العراق من جديد، مثلما فعل دوما من قبل، وسيضطلع مجددا بدور مهم في المنطقة. لكن كي يتحقق ذلك، يحتاج العراق إلى عون أخوي.

في الواقع، إن الشرق الأوسط بوجه عام بحاجة إلى قيادات تقدمية ذات رؤية، قيادات بإمكانها تنفيذ مبادرات ترمي لتعزيز التواصل بين المثقفين والقيادات من العرب والمسلمين بالأكاديميين والقيادات الدولية. والواضح أن العولمة قوة يتعذر إيقافها ويحتاج الشرق الأوسط ككل، وليس حفنة من دوله الأكثر ثراء فحسب، إلى إيجاد سبيل للتفاعل مع العالم على نحو بناء. إننا بحاجة لمزيد من المبادرات على غرار تلك التي أطلقتها السيدة الأولى في قطر والتي تستثمر في مستقبل العراق، وللاعتراف والسعي بجد لتناول المشكلات التي يعانيها التعليم في العراق. والمؤكد أن الاستثمار في التعليم يشكل عنصرا أساسيا في توفير فرص وتحسين مستقبل المنطقة والعالم. ويستحق العراقيون عن جدارة فرصة للمشاركة في هذا المستقبل.

ولكم أن تتخيلوا التأثير الإقليمي لتعاون فريق من العلماء والمهندسين من العراق وسورية وتركيا داخل المدينة التعليمية في قطر أو جامعة الملك عبد الله للعلوم والتكنولوجيا في السعودية أو معهد مصدر للعلوم والتكنولوجيا في الإمارات العربية المتحدة، على تطوير أسلوب إدارة أفضل للمياه أو تناول مشكلات التصحر أو التحول إلى رواد بمجال استغلال الطاقة المتجددة. ولكم أن تتخيلوا فريقا طبيا مؤلفا من باحثين من العراق والكويت يعملون جنبا إلى جنب على التوصل إلى حل لتنامي معدلات الإصابة بالسرطان على نحو مثير للقلق في المنطقة. وتخيلوا اجتماع زمرة من رجال الدين في جامعة الأزهر بالقاهرة للعمل معا على المصالحة الطائفية والدينية - وهي إحدى القضايا التي تعاني بسببها المنطقة. المؤكد أن التأثيرات الإيجابية لمثل هذه المبادرات ستترك أصداء إيجابية في مختلف أرجاء المنطقة وستبعث برسالة قوية إلى باقي العالم مفادها أن الشرق الأوسط ليست منطقة يتعلق ذكرها دوما بالصراعات، وإنما تعد مركزا للتعلم والإبداع الذي يرمي إلى تناول التحديات التي تجابه الإنسانية - على نحو سلمي يقوم على التعاون.

عليكم أن تتخيلوا ذلك. بل والأفضل أن تتخيلوا ما يمكن للشرق الأوسط تحقيقه إذا ما نحينا خلافاتنا جانبا وعملنا معا على الاحتذاء بحذو سيدة قطر الأولى - لكم أن تتخيلوا ذلك. ونحن فقط بمقدورنا إنجاز ذلك.

* بروفسور من جامعة جيمس ماديسون وزميل سابق في برنامج فرانكلين بوزارة الخارجية الأميركية ورئيس المؤسسة العراقية - الأميركية للتعليم العالي.