يتطلب الأمر حدوث أزمة لصناعة قارة

TT

أعياد الميلاد شيء ممتع، لكن الولادة نفسها ليست كذلك. تنطوي عملية الولادة على الكثير من الصراخ والأنين، وحتى في عمليات الوضع الأكثر سهولة، تجد دوما الخوف من حدوث إخفاق بصورة أو بأخرى. ولا يعد ميلاد دولة جديدة أقل صعوبة. ففي الواقع، ما ينظر إليه المتشائمون - بما في ذلك الكثير هنا في ألمانيا - على أنه أزمة وجود بالنسبة إلى القارة يعد بالفعل المرحلة الأخيرة في آلام المخاض في ولادة دولة جديدة. وفي حين ينبغي لنا بالطبع أن نشعر بالقلق إزاء أزمة اليونان، ينبغي لنا كذلك أن يكون لدينا أمل في أننا نشهد نهاية منطقة اليورو باعتبارها فكرة تجريدية وميلاد الولايات المتحدة في أوروبا.

كان تحرك أوروبا تجاه الوحدة دوما نتاجا للأزمات. أقنعت كوارث الحرب العالمية الأولى والثانية قادة القارة بتنحية صلابة الحدود الثابتة جانبا، ومعها القومية والانعزالية التي قادت إلى الصراع المتكرر. ومع ذلك لم تكن المثالية سوى جزء صغير من الدافع تجاه التعاون. ففي مطلع خمسينات القرن الماضي، بدأ تهديد الشيوعية السوفياتية يلوح في الأفق بصورة كبيرة ومقلقة. وقادت المخاوف المشتركة والرؤية الجماعية إلى توحيدنا، حيث قال المستشار الألماني الراحل كونراد أديناور: «كانت الوحدة الأوروبية حلما لعدد صغير. وأصبحت أملا للكثيرين. والآن، أصبحت أمرا ضروريا لنا جميعا».

وأثناء الحرب الباردة، وسع الاتحاد الأوروبي عضويته وبدأ في إنشاء علاقات نقدية. وعلى الرغم من أن القادة الأوروبيين حاولوا تقديم مبررات اقتصادية سليمة للاندماج، فإن الاتحاد النقدي الناشئ كان قبل كل شيء أمرا سياسيا، فكان ربط العملة يعني ربط الدول المختلفة بصورة كبيرة بمصلحة مشتركة.

كانت الأزمات والفرص حاضرة كذلك أثناء مطلع تسعينات القرن الماضي، عندما قادت وحدة ألمانيا إلى مخاوف من بروز القومية التيوتونية من جديد وظهور روسيا الرجعية. وبعد سنوات من النقاش، كانت النتيجة هي إنشاء الاتحاد الأوروبي والتوسع السريع فيه. وحصلنا أيضا على اليورو باعتباره أداة سياسية بقدر ما هو اقتصادية. وبالنظر إلى التصميم، ستجبر القواعد النقدية والمالية الصارمة لهذه العملة الاقتصادات الأكثر قوة إلى إحداث التوازن مع الاقتصادات الضعيفة، مما يدفع إلى تعاون أوثق بصورة أكبر من أي وقت مضى. وعلى الرغم من ذلك، كان الاتحاد الأوروبي بصفة عامة حريصا على أرواح مواطنيه، وبالتالي لم تقتحم هذه الأزمات الماضية بصورة كبيرة ذهن الرأي العام. وتغير ذلك مع الحديث عن إنقاذ اليونان المبذرة، وربما يكون ذلك هو السبب في أن هذه الأزمة ينظر إليها على أنها أكثر خطورة من كثير من الأزمات التي وقعت في الماضي.

ومع ذلك، فمن المحتمل أن ينظر المؤرخون إلى التاسع من مايو على أنه نقطة تحول، عندما أعلن القادة الأوروبيون، في قاعة مؤتمرات في بروكسل، ضمانا شاملا بقيمة 750 مليار يورو (نحو تريليون دولار) للدول الواقعة على الجانب الجنوبي من منطقة اليورو. وحتى البنك المركزي الأوروبي، الذي كان يعتبر حتى ذلك الحين هيئة مستقلة، تدخل بهدوء لإنقاذ الدول المتعثرة. وعلى الرغم من أنهم لن يقبلوا به على الإطلاق، شكل الرجال والنساء الذين اجتمعوا في بروكسل أول مجلس وزاري اقتصادي أوروبي، ووضعوا السياسة على عجل، تماما كما لو كان الأمر في دولة نظامية.

نعم، يتم خرق القواعد التي تحكم اليورو كل يوم، مما يسبب حالة من الذعر في السوق. بيد أن ذلك جزء من التحرك إلى الأمام، وليس تجاه نقض الوحدة. ووفقا لمعاهدة الوحدة النقدية التي تم توقيعها عام 1999، لم تكن الدول الأعضاء مطلقا تهدف إلى استغلال ديون واحدة من الدول الأعضاء، وكان البنك المركزي الأوروبي، على غرار البنك المركزي الألماني، يهدف إلى ضمان الاستقرار النقدي بأي ثمن. لكن، في هذه اللحظة الحرجة، قررت أوروبا أن الوحدة النقدية كانت غير كافية، وأن الأمر كان يستحق خرق القواعد لتحقيق مزيد من القرب بين أعضائها باعتبارها وحدة سياسية.

ومن الآن فصاعدا، سيتم الربط بين الميزانيات المحلية في شمال وجنوب أوروبا، وهي الحقيقة التي لم تنتج عن خطة طويلة المدى بل نتجت مرة أخرى عن الأزمة. لم توافق ألمانيا على حظر أحادي الجانب وغير متوقع بشأن البيع على المكشوف هذا الأسبوع، لكن الأمر كان بمثابة وسيلة لتهدئة الرأي الشعبي المحلي الغاضب أكثر من كونها إشارة إلى أشياء مستقبلية. وفي الواقع، ستصبح هذه القرارات على الصعيد الوطني نادرة بصورة كبيرة.

وبعدما دفعت نفسها تجاه حقبة من صناعة السياسة على مستوى القارة، يجب على أوروبا الآن اللحاق بنظامها الديمقراطي. يشعر ملايين الأوروبيين بالفعل بالعزلة من جانب بروكسل، وإذا استمرت نتائج هذه الأزمة، يتعين على القادة الأوروبيين تحديد كيفية التأكد من أنه يتم أخذ أصوات الشعوب في الاعتبار في العملية السياسية. فأوروبا باعتبارها هيئة صنع قرار موجودة حقيقة، والآن عليها أن تصبح أكثر ديمقراطية.

ستصبح أهمية الأحداث التي تتكشف الآن واضحة بالنسبة إلينا فقط بمرور الوقت. الصحافة تطلق عليها أزمة قاتلة، لكن عناوين الأخبار ينبغي أن تكون في الحقيقة إعلان ميلاد. كل ما نستطيع فعله الآن هو أن نتوقع ونأمل أن يستطيع هذا المولود الصغير البقاء على قيد الحياة.

* رئيس تحرير الصحيفة المالية الألمانية (هاندلسبلات)

* خدمة «نيويورك تايمز»