.. والأركان المجمع عليها.. ميسورة التطبيق في كل بيئة وزمان

TT

نقدر ونثمن - بدرجة عالية - ردود الفعل العاقلة الراقية على مقال الأسبوع الماضي «كيف يتحرر المسلمون من سجن التدمير الذاتي»، فهي مواقف تبرهن على أن بالمسلمين «لهفة» محمودة وواعية إلى ما يجمعهم ويوحدهم بعد الشقوة التي عانوها - ولا يزالون يعانونها - من الفرقة والشحناء والتدمير الذاتي المتبادل.. ولئن تكفل مقال الأسبوع الماضي باجتلاء «عزائم الإجماع اليقيني» الذي يجمع المسلمين بمختلف مذاهبهم وطوائفهم وراياتهم وعناوينهم، القديمة والحديثة، أي عزائم أركان الإيمان الستة، وبُنى الإسلام الخمسة، فإن هذا المقال مختص بقضية «تقنية» أو تطبيقية أو عملية.

والقضية هي أن هذه الأركان والبنى «ميسورة» التطبيق، في كل بيئة، وكل زمان:

1) فأركان الإيمان الستة «عمل عقلي قلبي»، يستطيعه كل إنسان مؤمن ذي عقل، وذي استعداد نفسي، إذ الإيمان عملي عقلي قلبي، كما تقدمت العبارة، وليست حجة مقبولة عقلا أن يقول مؤمن: أنا لا أستطيع أن أومن بالله وببقية أركان الإيمان، فهو قول يتناقض مع الإيمان الحاصل!! كما أنه من ناحية عامة يتناقض مع «إيمانات» شتى استطاعها العقل والقلب. فمن يستطيع أن يؤمن بنسبه، مثلا: أنه فلان بن فلان بن فلان إيمانا لا ريب فيه يستطيع - بذات العقل والقلب - أن يؤمن بأركان الإيمان، ذلك أن الإيمان محله القلب.. على أن براهين الإيمان بالأركان الستة أقوى ملايين المرات من براهين الإيمان بالنسب الذي لا يقبل امرؤ حر من أحد أن يشككه فيه.

وبتصعيد المنطق نقول: إن من يستطيع أن يحب زوجه وأولاده، يستطيع أن يحب الله ورسوله.. والشاهد المقصود من هذه الأمثال أن في استطاعة القلب أن يؤمن بأركان الإيمان الستة، إذ هي ليست مما لا يطاق.. أي ليست فوق القدرة والاستطاعة.. نعم، في استطاعة القلب أن يؤمن بذلك في أي بيئة كانت؛ في مكة، أو باريس، أو سيدني، أو واشنطن، أو القاهرة، أو أنقرة، أو برلين، أو نواكشوط، أو داكار، أو مدريد، أو أديس أبابا.. نعم.. نعم. وإن في استطاعة القلب أن يؤمن بهذه الأركان في كل زمان؛ في عصر التنزيل، أو في عصرنا هذا، أو في الأزمان القادمة، مهما امتدت في المستقبل.. نلحظ هذا المفهوم الإيماني - العابر للأزمنة - في قول الله جل ثناؤه: (أمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله..). فكلمة «المؤمنون» تنتظم المؤمنين كافة المنتشرين في الأزمنة جميعها، منذ عصر الرسالة إلى قيام الساعة.

2) وبُنى الإسلام أو أركانه الميسورة التطبيق في كل بيئة وزمان أيضا.. وأصل الأصول - ها هنا -: أن الالتزام بشرائع الإسلام - من الناحية العملية - مبني على «القدرة» على تطبيقه.. والبراهين على ذلك مستفيضة في الكتاب والسنة.. ومن الفكر السديد - والواقعي - عند المسلمين: أن علماءهم الثقات استنبطوا قواعد «تقنية» أو تطبيقية من تلك البراهين.. قواعد مثل «الوجوب مشروط بالقدرة».. «لا تكليف بما لا يطاق».

ولنبسط القول - بعض البسط - في تيسير أركان الإسلام الخمسة للتطبيق:

أ) شهادة أن لا إله إلا الله محمد رسول الله تدخل في نطاق الإيمان العقلي القلبي، أي تدخل - من زاوية الاستطاعة القلبية - فيما قلناه عن الإيمان بأركان الإيمان الستة.

ب) ركن الصلاة.. وهو مبني على اليسر والاستطاعة.. فالطهارة هي مدخل هذا الركن، وهي مبنية على تيسير التطبيق أيضا.. فقد ختمت آية الوضوء بقوله سبحانه: (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون).. ومع أن الوضوء من شروط الصلاة، فإنه في حالة عدم وجود الماء، يجزئ التيمم: (وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا).. والقيام في الصلاة فرض، فإن لم يستطع المسلم القيام صلى قاعدا، فإن لم يستطع فعلى جنب، فإن عجز عن ذلك يجري الصلاة على أي وجه يستطيعه ما دام عاقلا مدركا.. ثم هناك التوسعة المكانية في الاستطاعة؛ فقد جعلت الأرض كلها مسجدا وطهورا للمسلمين. فأيما أحد من المسلمين أدركته الصلاة فليصل حيث أدركته. فقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأبي ذر: «أينما أدركتك الصلاة فصل فهو مسجد».

ج) ركن الزكاة.. وهو مبني على الاستطاعة. فالزكاة مرفوعة عمن لا يملك النصاب.. والزكاة المؤداة من النصاب جد يسيرة 2.5% إذا كان النصاب مالا.

د) والصيام مبني على الاستطاعة. فلا صيام على مريض، ولا صبي، ولا مسافر، ولا حائض، ولا نفساء، ولا شيخ هرم، ولا حامل ولا مرضع.. قال العلماء: والحبلى والمرضع إذا خافتا على نفسيهما أو أولادهما أفطرتا وعليهما الفدية ولا قضاء عليهما عند ابن عمر وابن عباس.. وآيات الصيام تنضح باليسر: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر).

هـ) والحج كله مبني على الاستطاعة واليسر.. فالحج مرة واحدة في العمر.. والحج على المستطيع - فحسب -: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا).. ومن الاستطاعة: الصحة والعافية.. والزاد والراحلة.. ولقد قال العلماء: إن النبي جعل الراحلة من الاستطاعة مع علمه أن كثيرا من الناس يقدرون على المشي.. والحج كله قائم على التيسير.. ومن التيسير: رفع الإثم عمن تقدم في يومين أو تأخر.. وقصر الصلاة وجمعها في عرفة ومزدلفة.. وإقرار الاختلاف أو التنوع في صنيع الإهلال والتكبير.. ومن التيسير: رفع الحرج في تقديم أو تأخير أعمال يوم النحر. فالسنة هي البدء بالرمي.. ثم الذبح.. ثم الحلق.. ثم الطواف بالبيت. ولكن من الناس من لم يستطع التزام هذا الترتيب. فمنهم من حلق قبل أن ينحر، ومنهم من نحر قبل أن يرمي فرفع النبي الحرج عنهم جميعا فقال للأول: «افعل ولا حرج». وقال للآخر: «افعل ولا حرج». فما سئل النبي عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: «افعل ولا حرج».

بقي في الموضوع محاور ثلاثة هي تمامه وثمرته:

1) المحور الأول: أن هذه الأركان الخمسة، وكذلك أركان الإيمان الستة، إذ تجمع المسلمين أجمعين على الإيمان المشترك الذي لا يصح إسلام المسلم إلا به، فإنها أركان مستطاعة التطبيق على المستوى الفردي الخاص، وعلى مستوى الأمة العام.. بمعنى أن تطبيقها لا يحتاج إلى «دولة»، ولا إلى «حزب».. ثم إن هذا التطبيق مسؤولية فردية عينية يسأل الله عنها كل مسلم بمفرده، لا عبر لجنة، ولا من خلال حزب أو حكومة أو قبيلة.. وهذه تربية أصيلة لـ«الاستقلال الشخصي» لدى المسلم.

2) المحور الثاني هو: أن من مقاصد الحكمة الإلهية العليا في هذه الأركان ألا «تتعطل» شرائع الإسلام العظمى الأساس، في أي بيئة، وفي أي زمان.. لا تتعطل لا بسبب دعوى عدم الاستطاعة، ولا بسبب دعوى عدم وجود حكومة، ولا بسبب دعوى عدم وجود «حزب» يحشد الناس ويجيشهم لأجل تطبيق هذه الأركان.

3) المحور الثالث: سؤال مهم يتطلب جوابا واضحا شافيا. السؤال هو: أن المسلم يستطيع أن يطبق هذه الشرائع في الظاهر بينما يكون - في حقيقة الأمر - منافقا، فكيف يستقيم الأمر والحالة هذه؟

والجواب: يستقيم الأمر بالاعتصام بالمنهج.

والمنهج يقول: إن المنافقين كانوا موجودين والوحي يتنزل، ومع ذلك سماهم منافقين ولم يطلق عليهم وصف «كفار».. على حين أن التعريف الموضوعي أو العلمي للنفاق هو «إظهار الإسلام مع إبطان الكفر».

لماذا لا يوصم المنافق بالكفر؟

لأن النفاق نشاط قلبي مضمر.. والعليم بذات الصدور هو الله وحده عز وجل.. وهذا العلم ليس لنبي مرسل، ولا لملك مقرب، وحين طُلب من النبي أن يقتل رأس النفاق عبد الله ابن أبي سلول رفض النبي هذا الاقتراح وقال: «دعه حتى لا تتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه».. فرأس النفاق هذا كان من أصحاب النبي في نظر الرأي العام. فإذا قتله النبي قال الناس: النبي يقتل أصحابه!!، أي يقتل من ليس بكافر كفرا ظاهرا.. وفي الوقت نفسه فإن المنهج يمنع النبي من إطلاق وصف الكفر على عبد الله بن أبي سلول.. والمنهج يمنع النبي أن يفتش في ذات قلوب الناس حيث إن ذلك من خصائص الألوهية وحدها.

ثم إن باب التوبة مفتوح للمنافقين أنفسهم: (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا. إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما).