حضرت اجتماعا للأبالسة

TT

أحكي لك تفاصيل ما حدث في تلك الليلة بدقة. كنت في بيتي بغرفة مكتبي، انتهيت من قراءة فاوست غوتة، هي مسرحية تحكي عن رجل باع روحه للشيطان مقابل المعرفة المطلقة. الواقع أنني أعرف كثيرين باعوا أرواحهم للشيطان مقابل الثروة أو السلطة أو القوة، أنا شخصيا لست على استعداد لبيع أي شيء مقابل أي شيء فلست أمتلك شيئا. طفولتي ما زالت تصاحبني حتى الآن؛ كانت مليئة بالعفاريت والجان والأبالسة، وعندما عملت بالكتابة المسرحية كان من الطبيعي أن يكون عدد من شخصياتي في أربع مسرحيات على الأقل من بينهم. وآخر مرة كانت في مسرحية «رجلان وامرأتان» التي كتبتها منذ عشرة أعوام تقريبا عن مهندس زراعي من هواة الكتابة في الصحف، كتب في إحدى مقالاته أن «الشيطان ليس له وجود خارج جسم الإنسان» حدث إهمال من عامل المطبعة فسقطت كلمات وتبقت فقط تلك المقولة الخطيرة وهي أن الشيطان «ليس له وجود». وعلى الفور رفع البعض عليه قضية اتهموه فيها بأنه ينكر ما هو معروف من الدين بالضرورة، وانتهى الأمر بالحكم بالتفريق بينه وبين زوجته. ترتبك وزارة الداخلية ولا تعرف كيفية تنفيذ الحكم فتكتفي بإرسال ضابط شاب للتفريق بينهما داخل الشقة. وقائع المسرحية تحدث في تلك الليلة عندما تتفجر الفكاهة الناتجة من محاولة الزوج والزوجة الالتقاء في خلوة واصطدامهما بالضابط اليقظ المنضبط الذي يفسد محاولاتهما، وتظهر شخصية جديدة هي أخت الزوجة، وهي شابة جامعية كانت في تلك الليلة تلعب دور الشيطان في مسرحية فاوست غير أن الاتجاهات المتطرفة هاجمت العرض المسرحي وضربت الممثلين ودمرت الديكور وتمكنت الفتاة من الهرب وعادت إلى البيت مرتدية ملابس الشيطان الشهيرة وإكسسواراته التقليدية، القرون والذيل الذي ينتهي بالحربة، كان الضابط قد نام من فرط الإجهاد واستيقظ ليرى نفسه وجها لوجه أمام الشيطان وكان رد فعله الوحيد هو أن قال للشيطان يستعطفه وهو يشير إلى الزوج النائم على الأرض في الصالة: «والله يا باشا.. ما هو أنا اللي أنكرت وجودك.. ده الوغد اللي نايم هناك ده».

من الصعب إن لم يكن من المستحيل تلخيص مسرحية، تماما كما أنه من المستحيل تلخيص الحياة في كلمات، لذلك سأتوقف هنا وأعود لأصف لك ما حدث في تلك الليلة، لم أكن مجهدا، كنت يقظا للغاية وفي حالة مزاجية رائقة، تذكرت صديقي الدكتور فؤاد عجمي الأستاذ في جامعة جون هوبكنز، الذي استشهد في إحدى محاضراته ببيت للشاعر الإنجليزي ميلتون في الفردوس المفقود، عجزت عن فهم البيت، الذي يقول من الأفضل أن «تمطر» في الجحيم على أن تكون شخصا عاديا في الفردوس. رفضت أن أسأله مداراة لجهلي غير أني حصلت على الديوان في نفس الليلة كما كنت محظوظا لأني وجدته أيضا مسجلا على شرائط. اتضح أن الكلمة reign بمعنى «تحكم» وليست rain بمعني «تمطر» هكذا يستقيم المعنى ويتضح. كان الشيطان يقول: «أن تكون حاكما في الجحيم أفضل من أن تكون فردا عاديا في الفردوس». قالها في اجتماع كبير للأبالسة بعد طردهم من الفردوس، وأنا أعتقد أنه صادق تماما، الأبالسة فقط يرحبون بأن يكونوا حكاما في الجحيم من أن يكونوا مواطنين عاديين في الفردوس، هذا ما أثبتته لي الأيام.

بدأ النوم يداعب جفوني غير أني ما زلت يقظا، في تلك اللحظة رأيت شيئا غريبا، حدث تغير بسيط في لون الحائط المجاور لي، ازداد قتامة، ثم بدأ يتسرب منه شيء أشبه بالدخان، هو دخان أسود بالفعل أخذ يتجمع في الغرفة ويزداد سماكة ثم بدأ يتشكل على هيئة إنسان، كان يرتدي ثياب سهرة سوداء أنيقة ويتمتع بوسامة ملحوظة، أشار لي محييا ثم جلس أمامي وعلى وجهه طيف ابتسامة محببة، عرفت من هو على الفور، قال لي: أتيت لأشكرك على اهتمامك بنا والكتابة عنا.. غير أني أتيت الليلة بهدف محدد هو أن أثبت لك أن الشيطان له وجود خارج جلد الإنسان.. كما ترى لقد جئتك عبر الجدران ولم أخرج من داخلك.

أنا مدرب على الحوار مع المثقفين الأبالسة، سنوات طويلة وأنا أحاورهم في الفضائيات، لذا قلت له: حتى لو سلمت بذلك، غير أنك تظل عاجزا عن الحركة والفعل إلا بعد أن تتسلل إلى عقل الإنسان وتسكن روحه.

أجاب: ربما تكون على حق.

كما ترى هو حاد الذكاء، لم يشأ أن تضيع الليلة في نقاش دائري لا نتيجة له، بالتأكيد له هدف محدد من هذه الزيارة، ترى.. ما هو؟

قال برقة: ما رأيك في دعوة لحضور اجتماع مجلس الإدارة، لا شك أنك بدافع من الرغبة في المعرفة تريد أن تستمع لمداولاتنا وحواراتنا التي نخرج منها بالقرارات الشيطانية وكيفية تحويلها إلى أفعال على الأرض.

الفكرة ممتازة غير أنني شعرت بالخوف من جملة واحدة «بدافع من الرغبة في المعرفة»، هكذا تبدأ الحكاية عند الاستيلاء على أرواح البشر. قلت له: هل هي دعوة أم هي استدعاء؟ أقصد: هل هي عملية ضبط وإحضار.. أم دعوة بريئة؟

قال: صدقني.. لا ينقصنا أصدقاء، وحلفاؤنا أكثر عددا مما تتصور، وليس فيك ما يغرينا بالاستيلاء على روحك.. حتى الآن أنت قادر على الإفلات من التعاسة ونحن ننشد التعساء فقط.. أمر آخر.. نحن لم نعد نبذل مجهودا للاستيلاء على أرواح البشر خصوصا في منطقة الشرق الأوسط؛ بل، وأرجو أن تصدقني، لدينا قوائم انتظار طويلة، هناك زيادة مدهشة في عدد هؤلاء الذين يتقدمون بطلبات للالتحاق بنا.

قلت: موافق.. بشرط أن تكونوا أبالسة تقليديين كما تصوركم الحواديت والأفكار الشعبية، الأعين المشقوقة واللهب يخرج منها والقرون والذيل الذي ينتهي بحربة والأقدام المشقوقة التي تشبه حوافر الماعز وأظلاف الحيوان، هذا هو فقط ما يغريني بحضور هذا الاجتماع.

قال: موافق بكل سرور.. أنا شخصيا أشعر بضيق شديد عندما أتنكر في الهيئة التي تراني عليها الآن.. هيا بنا.

نهض واقفا وقال بصوت خافت: لن نخرج من الباب لكي لا تتنبه زوجتك لخروجك.. ستخرج معي من خلال الحائط.

وحضرت الاجتماع، جلست في مكان بعيد مخصص لضيوف الشرف، كان معي ضيوف كثيرون استطعت التعرف بينهم على عدد من زملائي وبعض أصحاب المناصب المرموقة في الشرق الأوسط، كان رئيس مجلس الإدارة يلقي خطبة غاضبة للغاية، أتذكر منها ما يلي: سنوات طويلة مرت ولست أرى سوى أعمال شر تتسم بالبلاهة والسذاجة، هذا أمر لا يليق بالأبالسة.. أين الإبداع في نسف البشر والأسواق؟.. أين الإبداع في ذلك الشر العبيط الذي توسوسون به في صدور المتطرفين؟ البشر فقط وبغير معونة منكم أو تحريض يستطيعون القيام بذلك، أريد منكم إبداعا غير مسبوق، الناس في العالم كله لم تعد تشعر بالصدمة أو الدهشة من أفعالكم، وهذا أمر يجعلني أشعر بالخجل.. كيف نكون أبالسة ونحن نوفر للناس هذا المستوي المتدني من الشر، كيف تسمحون لأنفسكم بأن يكون بنو آدم أكثر منكم شرا.. كل الاقتراحات المقدمة منكم مكررة وقديمة.. هل من جديد قبل أن أنهي هذه الجلسة وأطردكم جميعا وأستعين بأبالسة جدد محترفين؟

وهنا وقف أحد الأبالسة الشبان وقال: سيدي الرئيس.. ما رأيك في تدمير مبنى تابع للأنروا في غزة؟

فرد الرئيس: قديمة.. فعلناها من قبل.

فقال صاحب الاقتراح: هو مبنى مخصص للأطفال.. مخصص لبهجة الأطفال ومزود بحمام سباحة وكافة أدوات الأنشطة الرياضية التي تبعث على البهجة، لم يفتتح بعد.. بضربة واحدة سنحقق أعظم أنواع الشر على الأرض، وهو المزيد من التعاسة للأطفال في غزة.. وفي الوقت نفسه سيفهم العالم كله أننا قادرون على تدمير مشروع للهيئة الوحيدة التي تساعد أهل غزة مساعدة فعلية وليس مهرجاناتية استعراضية.. أليس من شأن ذلك أن يشعر سكان العالم كله بالأسف والألم واليأس والعجز أيضا.. هل هناك درجة شر أعلى من ذلك؟ إنها ضربة العمر.

ارتفع تصفيق الأبالسة الحاضرين، كان التصفيق مدويا لدرجة أنه أيقظني من نومي على المكتب، خرجت من المكتب ودخلت غرفة النوم، سألتني زوجتي: هو أنت خرجت؟

أجبتها: نعم.. كان عندي اجتماع مع ناس مهمين.