أخطر ما يمكن أن يكون

TT

من أين يمكن للقارئ أن يحصل على الأخبار؟ وكيف يمكن له أن يصل إلى تقييم خاص لما يجري في عالم اليوم إذا كانت صحيفة مثل الـ«نيويورك تايمز» قادرة على نشر مثل مقال توماس فريدمان، «أقبح ما يمكن أن يكون»، الذي نشرته الـ«نيويورك تايمز» بتاريخ 25 مايو (أيار) 2010 بعد يوم واحد من إعلان الولايات المتحدة خططها الجديدة في «توسيع نطاق الأعمال العسكرية السرية في منطقة الشرق الأوسط»، والتخلي عن استخدام مصطلح «الحرب على الإرهاب»؟ كل ذلك فقط في سبيل منح وزارة الدفاع الأميركية ووكالة الاستخبارات المركزية، الـ«سي آي إيه»، مطلق الحرية في استخدام المتعاقدين من الـ«بلاك ووتر» في كل بلدان الشرق الأوسط، وآسيا الوسطى والقرن الأفريقي، سواء منها الصديقة أو العدوة، بهدف جمع المعلومات الاستخباراتية وبناء العلاقات والروابط مع القوات المحلية. وقال مسؤولون إن النظام يتيح أيضا الاستطلاع الذي من شأنه أن يمهد الطريق لاحتمال توجيه ضربات عسكرية في إيران في حال تصاعد التوترات فيما يتعلق بطموحاتها النووية («نيويورك تايمز»، 24 أيار، بقلم مارك مازيتي).

لقد تجاوز فريدمان في مقاله الحدود الدنيا للمجاملة مع رؤساء الدول عندما اتهم الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا، الذي يجسد نموذجا ملهما للملايين من الأجيال الشابة في جميع أرجاء العالم، بأنه أثار إحباطا أخلاقيا شديدا بسبب دعمه لمن يثبطون الديمقراطية في دول أميركا اللاتينية. إن فريدمان، بتنصيب نفسه قاضيا من أجل الديمقراطية «الحقيقية»، وبتصنيفه كلا من إيران وفنزويلا والبرازيل وتركيا، على أنها «ليست ديمقراطية»، في حين أهمل تسمية دول أخرى «حليفة» أو «صديقة» لإدارته المتعاقبة في واشنطن بأي تصنيف «قبيح» رغم أنها بعيدة عن الديمقراطية بعد المريخ عن الأرض.

ويبدو أن الاستراتيجية الجديدة لم تتخلّ عن تقبيح الألوان الثورية، فالآن لدينا «الثورة الخضراء» في إيران، على غرار «الثورة البرتقالية» التي اندلعت ومولت ودعمت في أوكرانيا، والتي تبددت مؤخرا بفضل قوة الديمقراطية التي لا يمكن أن تتوافق مع «الديمقراطية» التي يتم التحكم بها عن بعد ممن لا يدركون، بل ويجهلون، أي شيء عن روحانية مجتمعاتنا، وحيوية قيمنا، ووطنية شعوبنا. فهم يعيشون في ملاذاتهم الآمنة والدافئة على بعد آلاف الأميال من تلك الأماكن التي يبعثون فيها القلق والاضطراب ويكيلون إليها التهم والإدانات ويشعلون فيها الصراعات الدائمة، والموت، والدمار.

لا يمكن لمشغلي «الديمقراطيات» عن بعد، أن يكترثوا بالموت والدمار الحاصلين في العراق، أو القتل اليومي الجاري في باكستان وأفغانستان والصومال، ولا للجرائم اليومية التي يرتكبها المستوطنون الإسرائيليون ضد المدنيين الفلسطينيين، ولا لضحايا القصف اليومي الذي تمارسه الطائرات الإسرائيلية على قطاع غزة من الأطفال والنساء، ولا يمكن لهم أن يكترثوا بالانتهاكات اليومية للأجواء اللبنانية من قبل الطائرات الإسرائيلية، لأن هدف السياسات الأميركية الجديدة هو مساعدة إسرائيل في ترسيخ جذورها في منطقة الشرق الأوسط، و«دمجها» في المنطقة، و«ضمان أمنها» على حساب أمن العرب وحقوقهم، وذلك بالطبع، بغض النظر عما ترتكبه من جرائم حرب مشينة وخطيرة ضد السكان العرب الأصليين، وبغض النظر أيضا عن السجون الإسرائيلية المخزية التي يمارس فيها الساديون من المستوطنين أبشع أنواع التعذيب ضد الأسرى، ومنهم مئات الأطفال والأمهات، وهذا على لسان الصحف الإسرائيلية ومنظمات حقوق الإنسان. وفوق كل هذا وذاك، عن سياسات الفصل العنصري الإسرائيلية التي يؤكد كتاب «التحالف الخفي: علاقة إسرائيل السرية مع نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا»، للكاتبة ساشا بولاكوف سورانسكي، أن جذورها متأصلة في عمق العلاقات مع نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.

لا بل إن الضجة التي أثيرت حول محاولة إسرائيل بيع رؤوس نووية لجنوب أفريقيا، هدفت - في جزء منها - إلى التغطية على القسم الأهم والأخطر من الكتاب، وهو الكشف عن عنصرية متجذرة في إسرائيل ضد العرب والفلسطينيين، أكثر خطورة وأكبر مهانة من عنصرية نظام الفصل في جنوب أفريقيا العنصرية (انظر مقال كيفا الدير، «هآرتس» 25 مايو/أيار، بعنوان «من قال إن اليهود والعنصرية غير منسجمين؟»).

لا يمتلك توماس فريدمان ما يقوله تجاه المعلومات الأكيدة عن الرؤوس النووية التي كانت إسرائيل تنوي بيعها لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا منذ سبعينات القرن الماضي، لكنه يسلط الضوء على عبارة غامضة للخبراء «إن الأمر سيستغرق بضعة أشهر فقط من إيران لكي تتمكن مرة أخرى من جمع كمية كافية من الرؤوس لصنع سلاح نووي». على الرغم من أن إيران لا تمتلك القدرة على تخصيب اليورانيوم إلا بنسبة 20%، بينما يحتاج امتلاك سلاح نووي إلى تخصيب اليورانيوم بنسبة 90%، وعلى الرغم من أن إيران تعتبر حيازة واستخدام الأسلحة النووية جريمة من وجهة نظر دينية، وعلى الرغم من أن إيران هي إحدى الدول الموقعة على معاهدة حظر الانتشار النووي (بينما إسرائيل ليست من تلك الدول)، فإن توماس فريدمان يرى أن إيران تشكل خطرا نوويا كبيرا، بينما إسرائيل لا تشكل مثل هذا الخطر!!

أي أن فريدمان لا يرى ملايين العرب المهددين بالسلاح النووي الإسرائيلي، فهم غير موجودين بالنسبة إليه، ولا بالنسبة إلى الإدارات الأميركية والغربية عموما، فبالنسبة إليهم «أمن إسرائيل» مهم وحسب، أما أمن العرب فهذا صفر على الشمال!

ويرى فريدمان أنه من الأفضل عدم حصول إيران على سلاح نووي، قائلا: «إن العالم سيصبح أكثر أمنا دون المزيد من تلك الرؤوس النووية، وخصوصا في منطقة الشرق الأوسط»، لكنني أتساءل ماذا عن الرؤوس النووية التي تمتلكها إسرائيل؟ وماذا عن الترسانة الضخمة من كل أنواع الأسلحة الفتاكة الأخرى التي تستخدمها في قتل وتشريد وإبادة السكان المدنيين الفلسطينيين يوميا، بمن فيهم الأطفال والأمهات العزل؟

ويخلص فريدمان إلى القول: «إن أولئك الذين يسعون إلى تعزيز الديمقراطية الحقيقية في إيران إنما هم يقفون إلى جانب الحق، لكن أي أحد يساند ويدعم النظام الإيراني، فلا بد أنه سيقف يوما ما ليجيب عن أسئلة الشعب الإيراني». وأنا أتساءل: من سيجيب عن أسئلة الشعب الفلسطيني والعراقي والأفغاني؟ ولم يتطرق طبعا لعملية التطهير العرقي الجارية الآن في إسرائيل من تهويد متواصل للأحياء العربية، وحرق للمساجد، وهدم للمنازل، وتجريف للأراضي الزراعية العربية، وقطع أشجار العرب، ومنع العرب من التعبير السياسي عن حقوقهم وتطلعاتهم القومية، وحرمانهم من الحرية والدولة الوطنية. فكل هذه الجرائم تسمح بها الاستراتيجيات الأميركية القديمة والجديدة لضمان «أمن إسرائيل»، وأي ديكتاتورية مهما كانت «قبيحة» ستعتبرونها «صديقة» إذا ساهمت في ضمان «أمن إسرائيل»، وأي ديمقراطية سيتم «تقبيحها» لو ساندت حق شعب فلسطين في الحرية!

لو دعمت إيران وتركيا والبرازيل وفنزويلا اليوم جرائم إسرائيل ضد المدنيين العزل، وأعلنت تخليها عن دعم حق شعب فلسطين في الحرية، وساهمت في حصار غزة وليس كسره، لسمعنا في اليوم نفسه تصريحات غربية رسمية وإعلامية، بأن إيران دولة ديمقراطية، وبأن هذه الدولة أصبحت «صديقة» و«حليفة». فالمعيار الغربي للديمقراطية في الشرق الأوسط هو ضمان «أمن إسرائيل»، وقد فهمته الأنظمة جيدا، وعلى هذا الأساس يجلد فريدمان وأمثاله إيران بسياطهم!

إن إعلان النشاط العسكري السري المتفق عليه بين البنتاغون ووكالة الاستخبارات المركزية المتعلق بمنطقة الشرق الأوسط وما حولها، يحذر من حقبة جديدة من الفوضى أكثر خطورة من شن الحرب على الإرهاب، لأن هذه المرحلة تهدف إلى إعادة تشكيل عالمنا وبلداننا وحتى ثقافتنا وأخلاقنا وفقا لمجموعة من المتعاقدين ممن يتابعون جدول أعمال مختلف تماما دون أي اعتبار للسكان الأصليين أو حتى للقيم والثقافة والأخلاق. وها هو العالم ينقسم مرة أخرى إلى «أولئك الموالين لنا والآخرين الذين يقفون ضدنا»، ولكن مع الجهود من أجل توظيف بعض السكان الأصليين المحليين لإطلاق «ثورات برتقالية»، و«ثورات خضراء» تحت غطاء شرعي. يبدو أننا نسير نحو مستقبل أكثر خطورة، وليس أمرا مفيدا لأحد أن يكون فريدمان وأمثاله من المروجين لمثل هذا المستقبل، بل إن هذا الترويج سيكون مضللا وخطيرا.