لماذا الإصرار الإسرائيلي على تهديد «كل لبنان»؟

TT

«المواقف المتطرفة لا تنتهي إلى مواقف معتدلة، بل إلى تطرف مضاد»

(فريديريك نيتشه)

عودة إسرائيل إلى تهديد كل لبنان، عبر الحكومة اللبنانية المسماة «توافقية»، في كل مرة توجه رسالة إلى حزب الله.. مسألة تستحق البحث.

من السذاجة التعليق على هذه السياسة الرسمية بالقول إن إسرائيل في عهد بنيامين نتنياهو تعيش عداء وجوديا دفينا تجاه كل ما يندرج تحت مسميات الاعتدال والإيجابية. فنتنياهو أصلا سليل «مدرسة» بدأت بفلاديمير «زئيف» جابوتنسكي، واستمرت عبر مناحيم بيغن وإسحق شامير وآرييل شارون ومن لفّ لفّهم في حقب التطرّف الصهيوني المتعاقبة. وظهرت في أزياء «المراجعين» (أو «الرجعيين») Revisionists ثم حزب «حيروت»، فكتلة «غاحال»، فـ«التكتل» أو «الليكود». وعلى الطريق كانت ترفد هذه النواة أحزاب وحركات عدة صغيرة، لا سيما، الأحزاب الدينية وحركات الاستيطان والتهجير المتعددة المشارب والمختلفة فقط في التفاصيل.

جوهر تفكير هذه المدرسة هي أن لا فائدة ترجى لإسرائيل إلا بالتطرف، ولا بد من تعميمه من حولها أيضا. ذلك أن في صميم منطق التطرف رفض الإقرار بأي فضيلة للاعتدال ليس فقط في الداخل، بل في الخارج أيضا، خاصةً أن تطرّف الخارج سواء طال الزمان أو قصر سيعزّز من قوّة حجّة التطرّف الداخلي.. وفق مثال الفعل ورد الفعل والرد المعاكس.

لهذا، نجد أن هذا كان دأب الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تحت رايات الجابوتنسكية.. باستثناء التنازل الشكلي في كامب ديفيد، حين ارتأى مخططو حكومة بيغن أن المصلحة الاستراتيجية القاضية بإخراج مصر من حلبة النزاع الإقليمي أكبر وأجدى من الاحتفاظ بشبه جزيرة سيناء.

منذ ذلك الحين، ومع استفادة هذه «المدرسة» من حالة الأحادية القطبية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، انتقل التركيز إلى الساحات العربية الأخرى، وفي مقدمتها الساحة الفلسطينية. وهنا كانت غاية المنى إلحاق أكبر قدر من الأذى والإفلاس بصفوف الفصائل القومية واليسارية الفلسطينية وغض الطرف عن تنامي القوى المناوئة لها في معسكر الخيار الناشط باسم الدين ممثلا في حركة حماس.

هذا الخيار كان سهلا إلى حد بعيد لعدة أسباب، أبرزها:

1) أن كامب ديفيد أنهى واقعيا أي عمق استراتيجي لـ«الخيار القومي» على الساحة الفلسطينية.

2) أن انهيار الاتحاد السوفياتي، أفرغ البديل الثوري اليساري من أي صدقية، على أساس أنه إذا أفلس اليسار في قلبه ونموذجه، يستحيل أن يزهر ويثمر في أي مكان آخر.

3) أن القيادات السابقة للمقاومة الفلسطينية استمرأت الفساد والمحسوبية في غياب أي مساءلة حقيقية، وزجّت بحركة المقاومة - مضطرة أو مختارة - في صراع محاور عربي أضعف صدقيتها وهزّ هالتها.

4) أن تنامي قوة البديل الإسلامي الأصولي الفلسطيني، ضمن الحالة العامة في العالم الإسلامي بعد نهاية الحرب الباردة، جاء هادئا وأخذ في البداية شكلي «الاعتراض على الفساد» و«رفض التناقض المفضي إلى حرب أهلية فلسطينية».. كما شدّد الشيخ أحمد ياسين دائما.

وحقا، في نهاية المطاف، تبيّن أن اليمين الإسرائيلي كان راغبا في معاقبة ياسر عرفات - المحاصر حتى الموت في رام الله - على اعتداله.. لا على حمله البندقية.

الآن الشيء نفسه يحدث على الساحة اللبنانية، وسط مناخ إقليمي مساعد. فالهدف الاستراتيجي لنتنياهو يقضي بتعميم صورة «البعبع» المعادي المسلّح، سواء في إيران أو امتداداتها الاستراتيجية في لبنان وداخل العراق وسورية، لإحكام السيطرة على الشارع الإسرائيلي بدافع الخوف، ومن ثم إفهام المجتمع الدولي بأن عليه ألا يتوقع من إسرائيل تقديم تنازلات بوجود جيران متشددين يكدّسون الصواريخ ويطوّرون القدرات النووية ويهدّدونها بالصوت العالي.

إسرائيل التي لم ترَ ضيرا بالأمس في صعود حماس.. ليست قلقة اليوم من لهجة حزب الله. فهذا بالضبط ما تريده. وكان لافتا الضيق الإسرائيلي من نتيجة التصويت في الأمم المتحدة على موضوع جعل الشرق الأوسط منطقة خالية من السلاح النووي. فهذا التصويت يصبّ تماما ضد مصالح التطرّف الإسرائيلي، لأنه يسقط ورقة مهمة من الأوراق التي قامرت بها طيلة ما يقرب من 60 سنة.

ما تريده إسرائيل المتطرفة هو، أولا وآخرا، تعميم التطرّف لأنه حصانتها الأكيدة والضمانة الأقوى لابتزازها وتوسعها وتصفيتها القضية الفلسطينية وتدمير أي حلم عربي من حولها.