نظرية لبنان!

TT

حمى كأس العالم تجتاح الشوارع اللبنانية بشكل ملحوظ، فأعلام الدول المشاركة في هذه المناسبة الرياضية الكبرى تعتلي شرفات المنازل وأسطح السيارات. ولكنها هذه المرة أعلام «بريئة» ذات مناسبة خفيفة تنقضي، ومن ثم بعد ذلك تختفي.

ولكنك في لبنان، وبالتالي الوضع ممكن أن ينفجر في أي لحظة ولأتفه الأسباب! فهذا ما حدث في بلدة صغيرة بالشمال اللبناني عندما قتل قيادي من حزب القوات اللبنانية اثنين من تيار المردة، وهما حزبان مسيحيان متطرفان بينهما أنهار من الدم والثأر جراء القتل والقتل المقابل، في مشهد يليق بالهنود الحمر وقبائلها المتناحرة، أو فرق وقبائل الهوتو والتوتسي المتوحشة في رواندا، ولكن في لبنان البلد الغريب الذي منحه الخالق جمالا ساحرا وأخاذا، هناك حجم من الغضب مكتوم بين أضلع ناسه يجعل سكان البناية الواحدة يتعاركون طلبا للاستقلال عن الآخر، وإلا كيف من الممكن تفسير حجم القلق الهائل الموجود بين جيران وأهل شارع واحد يتحدثون عن بعضهما البعض وكأنهما قطبان أعظمان في الحرب العالمية الباردة الكبرى؟

لبنان مشكلته الحقيقية أنه لا يزال «نظرية» في أعين كثير من أبنائه، التي لديها قناعة تامة أن لبنان هو جزء من أوروبا، وتحديدا فرنسا، مثله مثل جزر المحيط الهادي تاهيتي وبورا بورا، أو مارتينيك بالبحر الكاريبي مثلا، وهناك جزء مهم من اللبنانيين يعتقد أنه جزء من سورية، وأن امتداد سورية الجغرافي الطبيعي هو لبنان، وأن التداخل الثقافي والاجتماعي هو الضمانة لسوية العلاقة بين البلدين، وهناك فريق يعتقد أن لبنان «اليوم» لا بد أن يكون جزءا من الجمهورية الإسلامية الإيرانية لأسباب أمنية وديموغرافية، ويغيب عن كل هذا المشهد المتوتر لبنان نفسه.

لبنان يسوق لنفسه باستمرار أنه واحة الحرية والديمقراطية في العالم العربي، وهذا لعمري أسطورة ليس أكثر، فهناك فرق كبير بين الحرية والفوضى، والديمقراطية والاستبداد.

تمعن في حركة المرور في لبنان لتعرف حجم الغموض وعدم احترام «قوانين» السير بوجود الشرطي وإشارة المرور (وهي من رموز هيبة الدولة المهمة) ولا يوجد أي شخصية عامة أو شبه عامة في لبنان إلا وهو محاط بأرتال من الحرس الشخصي في مشهد أشبه بعوائل المافيا والعصابات، فالجميع في حال من الخوف والقلق وانعدام الثقة في المنظومة الأمنية الرسمية مهما تغنوا بشعارات التمجيد لها.

في لبنان هناك تطبيقات «غريبة» للديمقراطية، فالفائز ليس له الحق الفوري بتشكيل حكومته في الانتخابات البرلمانية، بل عليه أن يرضي الكل وبطرق مليئة بالانتهازية والمنفعة المفضوحة، ومع ذلك «يقبل» كل ذلك تحت مظلة الديمقراطية.

علامات الصحة والوطنية والديمقراطية الحقة نفسها آن أوان ظهورها في الجولة القادمة من الانتخابات الرئاسية والبرلمانية. رئاسة الجمهورية يجب أن تخرج من عباءة العسكر وتقدم لشخصية شابة حاسمة (يتحدثون عن زياد بارود وهو خيار ممتاز)، رئاسة الوزراء يجب أن يتم تداولها ولا تحصر لشخص واحد، فالسنة في لبنان جدارة وجودهم من ثراء وتنوع تمثيلهم، مع كل الاحترام للدور التاريخي المهم لسعد الحريري في الوقت الحالي، ولكن التاريخ سيذكره بخير أكبر لقدرته على إتاحة الفرصة لأحد آخر من الطائفة السنية لتبوؤ رئاسة مجلس الوزراء في لبنان.

وطبعا أن نقول إنه من الضروري أن تتاح الفرصة لشخص آخر غير نبيه بري لرئاسة البرلمان اللبناني، فهو من ضعيف القول، فالبرلمان اللبناني «بجلالة قدره» لا يمكن أن يبقى حكرا حصريا في شخص واحد طوال هذه السنين.

حتى تتحول «نظرية لبنان» إلى واقع عملي هناك الكثير من الخطوات العملية المطلوبة وفورا، وإلا بقي الحديث عن لبنان الوطن والمواطن مجرد ضوضاء و«دوشة» وإزعاج لا أحد يصدقه ولا ينصت إليه، ويسبب الغثيان. اللهم احفظ لبنان جميلا واهد أهله.

[email protected]