مدن بلا مقاه.. وجوه بلا ابتسامات

TT

أنا رجل أحب المقاهي، والمقاهي التي أحبها ليست مقاهي الخمس نجوم، بل تلك التي لم يزل يتردد في أرجائها صوت القهوجي منغّما: «أبو أربعة أسود حلاه بره»، ليعود فيأتيك حاملا صينيته المستديرة، وفي قلبها يهتز إبريق الشاي، تحيطه الفناجين الزجاجية، ذات المقابض الرقيقة، وبجوارها صينية السكر، تعلوها الملعقة النحاسية.. إنها صورة تراثية لم تزل مغروسة في الذاكرة، رغم انحسار هذا النوع من المقاهي في مدينة «جدّة» أمام سطوة البلديات، وظاهرة الـ«كوفي شوب»، التي يشعرك بعضها أنك تجلس في مكان لا علاقة له بالمقهى، وكانت جدتي يرحمها الله تخشى أن أنشأ على حد قولها: «ولد قهاوي»، وأعترف بأن خشيتها في مكانها، فأنا مدمن مقاهٍ في الحضر والسفر، وأول ما أبحث عنه في رحلاتي هو المقاهي، وتعجبني المدن التي تكثر فيها مقاهي الأرصفة كباريس والقاهرة، وتعشق السهر كما تعشقه جدة، وأكره المدن التي تنام مبكرا، وترفع شعار «بيتك بيتك»، إذا ما انطفأ النهار، وحل الظلام، ولعلي العاقل - أو المجنون - الوحيد الذي يتسامح نفسيا مع ما كان يفعله المسرحي والشاعر والكاتب المصري نجيب سرور، حينما كان يرمي البيوت بالحجارة ليلا، وهو يصيح:

- «القاهرة مش للنوم يا أولاد.... النوم في الغيطان».

فمدن بلا مقاهٍ أشبه بوجوه بلا ابتسامات.

والمقهى في جُدة قديم قدم القهوة والشاي، توقف أمامه الكثير من الرحالة والمؤرخين الذين زاروا جدة، حيث وصف الرحالة عبد الله بن محمد العياشي - الذي زار جدة في القرن السابع عشر - مقاهي المدينة، فقال: «فيها مقاهٍ ومجالس حسنة، يبالغ أصحابها في كنسها، وتنظيفها، ورشها بالماء، وفيها جلوس غالب أهل البلدة»، وأشار الرحالة السويسري لويس بوركهارت - الذي زار جدة عام 1814 - إلى أن بالمدينة 17 مقهى، تشرب فيها القهوة بإفراط، وقدر عددها إبراهيم رفعت باشا في كتابه الشهير «مرآة الحرمين» إلى أن بجدة في عام 1901 نحو أربعين مقهى، لكن المؤرخ أحمد الحضراوي، الذي عاش في الفترة نفسها، يرفع العدد إلى نحو المائة.

وكان المقهى في جدة حتى عهد قريب النادي الأدبي للأديب، والمقر المهني للعامل، والمسرح للفنان، وعلى كراسيها و«مراكيزها» ترنمت أصوات الشعراء الرواد بقصائدهم، ومن هؤلاء: حمزة شحاتة، وأحمد قنديل، ومحمود عارف، ومحمد سعيد العتيبي، وغيرهم.

اليوم المقهى في جدة محاصر بالكثير من نظرات الاستعلاء، والاستهجان، والجهل بالحضور البارز للمقهى في تراث المدينة، ولا أستبعد أن تنقرض المقاهي كما انقرضت الكثير من أشيائنا الحميمة.

[email protected]