في النصب الأدبي

TT

في بلد لا يعطي العالم والأديب حق قدره، لا يبقى للمتأدب لكسب عيشه غير بابين: المدح والنصب. الأدب العربي غني بكليهما. سمعنا الكثير عمن عاشوا بالمديح، أما النصب فله مكانته في مقامات الحريري والهمذاني وسواهما. من ذلك أيضا المقامة الصعيدية التي يروي فيها ناصيف اليازجي نموذجا من النصب الأدبي. يروي حلقة من براعات الشيخ الخزامي. وفيها يتقدم وابنته ليلى على أنهما زوجان يتنازعان. فتدخل الفتاة على القاضي وتقول:

«إنني امرأة من كرائم العقائل، وكرام القبائل. قد خطبني إلى والدتي العجوز، رجل يدعي أنه من أصحاب الكنوز. وقد جعل كل ماله لي وقفا، وصرفني في بيته عينا ووصفا. لما حضرت إلى بيته وجدته كبيت العنكبوت، ولا شيء فيه من الأثاث والقوت. وقد أمسكني جبرا، وكلفني على ما لا أستطيع عليه صبرا. فمره إن شئت بالإنفاق وإلا فالطلاق».

فأشار القاضي بإحضاره، وقال: «ادفع بالتي هي أحسن ولا تجادل فيما يسوؤك فتحزن». فأجاب:

أنا أبو ليلى أخو العجاج

وصاحب الأرجاز والأحاجي

عندي من العلم لدى المناجي

كنز، ومن مطارف الديباج

ما ليس من صناعة النسّاج

لكنني من قلة الرواج

قد اشتريت دملجا من عاج

بدرهم كالقمر الوهاج

فذاك مالي يا أبا فراج

جعلته في يد بنت الناجي

وقفا لها فلست بالمداجي

وهي على بيتي كالحجاج..

فعجب القوم من بداهة الرجل وفكاهته، ونزهة لفظه ونزاهته. وقالوا «ما نراه أخطأ في الدعوى، لكنها أخطأت في الفحوى، فليجبر كل واحد قلبها بدينار، ونجعلها زكاة عيد الإفطار».

ثم تقدم الرجل فقال: «قد رأيتم في الكتاب رأي العين، أن للذكر مثل حظ الأنثيين. فإن أحسنتم فإليكم، وإلا فكتاب الله عليكم». فدفعوا له ضعف ما دفعوا لها. فبرزت المرأة وقالت: «إن الدعوى من قبلي، فقد كان ذلك لي». أطرق القاضي إطراق المشفق، وقال: «إن البلاء موكل بالمنطق. وإنني أراهما يتداولان مكر الليل والنهار، ويصلان الدرهم بالدينار». فأمر لهما بالدفع من خزانة المحكمة. وخرجا بما كسباه فتبعهما صاحب الرواية، فرأى الرجل يزيل العور من عينه ويستعيد سالف شأنه. فإذا هو صاحبنا الخزامي يتقاسم الدنانير مع ابنته الخزامية. فابتهج بمرآه واغتبط بملتقاه، وقال: «ما خطبك وهذه الجارية، ومتى تزوجت في البادية؟»، أجاب فقال: «هي في البيت ابنتي وفي المحكمة زوجتي». ثم أنشد فقال:

خبث الدهر فصارت

أنفس الناس بخيلة

وإذا حالك ساءت

فلتكن عندك حيلة!.