وأخيرا اعترفوا.. فأنصفوا إيران!

TT

استوقفتني فقرات عدة في التقرير الذي نشره موقع «العربية نت» يوم الثلاثاء الماضي، المتضمن مقتطفات من حوار أجراه التلفزيون الإيراني مع علي شمخاني وزير الدفاع الأسبق وأحد كبار قادة الباسداران خلال حرب السنوات الثماني. وفي أوضح وصف لأسباب موافقة بلده على وقف الحرب ذكر أن إيقافها تم في ظروف لم يتمكنوا فيها من توفير «قيطان» الأحذية العسكرية لجنودهم. داحضا بقوله هذا كل ادعاءات قادة النظام بالنصر في الحرب. ويأتي حديث شمخاني متجانسا مع ما قاله الخميني من أنه تجرع كأس السم بقبول وقف الحرب. فيما أتاح المجتمع الدولي والعراق فرصا مناسبة لوقف مشرف لكل أشكال العمليات القتالية.

فعلا، كانت الظروف المعيشية في إيران عسيرة جدا، ولم تكن المنظومات تملك شيئا يؤمن انسيابية كبيرة لمواد تموين القتال، فكثير من طعام قوات الباسداران كان يجمع في الحسينيات من قوت الناس، لتأمين قدر محدود من الطعام ومن نوعيات بسيطة للمقاتلين في جبهات الحرب. وهذا يؤكد ما ورد في المقال السابق عن خطورة تحول بعض عوامل القوة إلى أعباء. فكيف كانت الأوضاع ستصبح لو أن القدرات التكنولوجية للطائرات العراقية كانت تسمح بمهاجمة مصانع الأسلحة المنتشرة في أعماق بعيدة؟.. ولماذا لم تصلهم الإمدادات الغيبية؟

للإنصاف، فإن المقاتلين الإيرانيين كأفراد، سجلوا مواقف مميزة في العمليات القتالية. إلا أنهم دُفعوا إلى ساحات الحرب من دون تأمين الحد الأدنى من مستلزمات النجاح. ووُضعت أرواحهم بيد قيادات لا تعرف شيئا عن فنون الحرب، بعد أن فتك الخمينيون بقادة جيش الشاه. وستبقى أرواح من قضى من المقاتلين البسطاء تلاحق الجوقة العليا للنظام الذي أصر على مواصلة الحرب.

وللإنصاف أيضا، فإن أجهزة مخابراتهم كانت تعمل ليل نهار بلا كلل أو ملل، لكن أداءها بقي بدائيا، وغالبا ما كان قادتها وكوادرها ينساقون وراء خطط الخداع التعبوية والاستراتيجية. ولم يكتشفوا مرة واحدة هجوما عراقيا، ولم يتمكنوا من إخفاء هجماتهم الكبرى ومعظم هجماتهم المتوسطة والصغيرة. فتسببوا في انتكاسات خطيرة. واليوم يحاولون اللعب بمشاعر «بعض» دول الخليج واستقرارها! ومن لا يتعلم في الحرب لا يتعلم في غيرها.

في المرحلة قبل الأخيرة من الحرب التي شهدت هجمات إيرانية كبرى، كان الغرور الإيراني مبالغا فيه كما هو عليه الآن. فالصوت المسموع الوحيد كان صوت الخميني الذي بقي يردد عبارات «صدام كافر، بعث كافر..». قابلها على الجانب العراقي خطاب تحد أيضا على شاكلة أغنية «ها ولكم وين.. يا دجالين». انطلاقا من الحاجة إلى التصعيد الإعلامي لأنه في مرحلة دفاع مصيري تتطلب تعبئة نفسية.

وللحق، فإن الرئيس الأسبق رفسنجاني اعتبر من أوائل المطالبين بوقف الحرب، ولا أقول هذا لأنه أصبح من أبرز معارضي نظام المرشد، ولا لأنه اتبع نهجا معقولا في «بعض» الملفات الخارجية، بل لذكر الجهود التي بذلها لإقناع الخميني بالجنوح إلى العقل، فنجح في الإبقاء على النظام. ولو استمرت الحرب بضعة أشهر أخرى، لما شهد العالم غلوا إيرانيا كما هو الآن.

ووفق هذه الاعتبارات فإن الإنصاف بات مطلوبا. فالمعارضون والمناضلون والمقاومون جديرون بإنصافهم في التمييز بينهم وبين قيادة «الولي الفقيه» ومؤازريه. ومن أبجديات الإنصاف أن يجري الفصل بين إيران والنظام القائم، في التعامل والنظرة والمصطلحات والتعبير والمسميات. فالذين خاصمهم نظام الفقيه ينبغي عليهم حصر الخصومة معه حتى يخضع لمنطق سليم أو يرحل بتناغم الجهود الدولية والمحلية، وترك سلبيات الماضي الغابر ولو من طرف واحد، لأن اجترار الماضي لا يعطي حلولا للمعضلات بقدر ما يعقدها.

مع ضرورة عدم تجاهل المتغيرات التي حدثت خلال العقدين الماضيين، فمن المناسب تبني قياس نسبي للمقارنة بين ضجيج القيادة الإيرانية خلال حرب السنوات الثماني، ومحاولتها التغطية على سوء أوضاعهم، وبين غلوهم الحالي المستند إلى هالة دعائية مبالغ فيها لتمرير مخططات خطيرة وتحقيق أطماع وطموحات ضارة لا ينبغي السماح بتحققها. وما قاله «الجنرال» شمخاني يعتبر دليلا قويا يساعد في إجراء مقارنات مفيدة بين اليوم والأمس والخروج باستنتاجات أساسية.

نظام المرشد في حاجة جدية لتعلم دروس مؤثرة من المجتمع الدولي والإقليم، لا أن تطلق يداه ورجلاه عبر عملائه. فإن حصل على بضع قنابل نووية فسوف تعيش المنطقة والعالم دوامة أزمات تقود إلى كوارث.