نظريتان للتغيير

TT

عندما كنت في الكلية، حضرت دورة حول عصر التنوير. في تلك الأيام، عندما كان الناس يتحدثون عن التنوير، كانوا في العادة يقصدون حركة التنوير الفرنسية ومفكرين مثل ديكارت وروسو وفولتير وكوندورسيه.

كان هؤلاء هم الفلاسفة الذين واجهوا عالم الخرافات والإقطاعيات، وسعوا إلى عرضه على ضوء العقل. وكانت الثورة العلمية مصدر إلهام لهم، وكان لديهم إيمان عظيم بقدرة عقل الفرد على اكتشاف الخطأ والتوصل بصورة منطقية إلى حقيقة الكون.

وكان مثلهم الأعلى هو ديكارت. كان يهدف إلى البدء في فهم البشر من جديد. كان ينبذ الأفكار المسبقة المتراكمة للماضي، وكان يهدف إلى البناء من الألف للياء، وتشييد اليقين المنطقي.

وما كان ديكارت يفعله من أجل المعرفة، فعله آخرون من أجل السياسة: محو الأعراف القديمة وكتابة دساتير جديدة قائمة على المنطق. وكان ذلك هو هدف الثورة الفرنسية.

بيد أنه لم تكن هناك حركة تنوير واحدة فقط (التي مقرها فرنسا)، حيث كانت هناك حركة تنوير أخرى مقرها اسكوتلندا وبريطانيا بقيادة ديفيد هيوم وآدم سميث وإدموند بيرك. وكما كتبت جيرترود هيملفارب عام 2004 في كتابها بعنوان «الطرق إلى الحداثة»: إذا كان أعضاء حركة التنوير الفرنسية قد ركزوا على قوة العقل، فإن أعضاء حركة التنوير البريطانية كانوا يؤكدون على حدوده.

لقد وضعوا مزيدا من التركيز على مشاعرنا. يُولد الناس برغبات طبيعية في أن يكونوا محبوبين ويستحقوا الإعجاب. ويولدون بمشاعر أخلاقية، وبروح الإنصاف والإحسان. ويولدون كذلك بمشاعر أكثر ظلاما، مثل حب الذات والقبلية، وهي المشاعر التي تفسد المؤسسات العقلانية. إننا مخلوقات عاطفية أولا وقبل كل شيء، وينبغي للسياسة ألا تنسى ذلك.

أنتجت هاتان النظرتان للطبيعة البشرية مواقف مختلفة إزاء التغير السياسي، فصلها ببراعة كبيرة توماس بين وإدموند بيرك. وتعد آراؤهما موضوع رسالة رائعة قدمها يوفال ليفين في جامعة شيكاغو تحت عنوان: «القانون العظيم للتغيير».

وكما يعرض ليفين، كان بين يؤمن بأن المجتمعات توجد في «حاضر سرمدي». وهذا الشيء كان موجودا على مدى عصور، ولا يخبرنا شيئا عن قيمته. لقد انتهى الماضي، وينبغي للأحياء استخدام قواتهم في التحليل لمحو الأنظمة القائمة عند الضرورة، وبدء العالم من جديد. لقد أشار إلى أن القوانين ينبغي أن تنتهي صلاحيتها بعد 30 عاما، بحيث يستطيع كل جيل البدء من جديد.

وكان بين ينظر إلى الثورتين الأميركية والفرنسية على أنهما نموذجان للنوع الخاص به من التغيير الجذري. وكان يؤمن بأن الثوريين في كل دولة استنتجوا حقائق عالمية معينة بشأن حقوق الإنسان، ثم صمموا مجتمعا جديدا يناسبهم.

وكان لدى بيرك، أحد المشاركين في حركة التنوير البريطانية، رؤية مختلفة للتغيير. كان يؤمن بأن كل جيل يعد جزءا صغيرا من سلسلة كبيرة للتاريخ. إننا نعمل كأمناء على حكمة العصور وملزمون بنقلها، بصورة محسنة نوعا ما، إلى أبنائنا. وتملأ هذه الحكمة الفجوات في المنطق الخاص بنا، حيث إن المؤسسات القديمة للغاية تحتوي ضمنيا على قدر من الحكمة أكبر من تلك التي الفرد يستطيع الفرد الحصول عليها.

وكان بيرك يخاف من الفكرة التي تقول إن الأفراد سيستخدمون العقل المجرد للتخلص من الأنظمة التي وقفت أمام اختبار الزمن. وكان يؤمن بالإصلاح المستمر، لكن الإصلاح ليس بدعة. إنك لا تحاول تغيير الجوهر الأساسي لأي مؤسسة. وتحاول التغيير من الداخل، وتحافظ على الأمور الجيدة وتعدل الأمور التي لا تحقق نجاحا.

وقال بيرك إنك إذا حاولت إعادة توجيه المجتمع على أساس خطط مجردة، فسينتهي الأمر بأنك ستتسبب في جميع أنوع الصعوبات الجديدة، نظرا لأن النظام الاجتماعي أكثر تعقيدا مما تعرف على الإطلاق. لا نستطيع مطلقا أن نفهم الأمور بصورة صحيحة من البداية.

كما أيد بيرك الثورة الأميركية، لكنه كان ينظر إليها من منظور مختلف عن بين. كان يؤمن بأن البرلمان البريطاني انتهك بصورة طائشة الحريات القديمة التي كان يحظى بها المستعمرون. كان الأميركيون يسعون إلى الحفاظ على ما كان لديهم.

ونحن الأميركيين لم نحدد مطلقا ما إذا كنا أبناء حركة التنوير الفرنسية أم حركة التنوير البريطانية. هل كان ما أسسناه تحولا جذريا أم إحدى صور المحافظة؟ لقد كان ذلك أحد موضوعات الخلاف بين جيفرسون وهاميلتون، ويعد أحد موضوعات الخلاف في الوقت الراهن، سواء بين الأحزاب أو في داخل كل منها.

وفي الوقت الراهن، إذا تأملت في السياسة الأميركية، سترى متشددين محافظين يسعون إلى التخلص من 100 عام من التاريخ وإعادة الحكومة إلى دورها في عصر ما قبل الصناعة. وسترى تكنوقراطيين ديمقراطيين على ثقة تامة بأنفسهم ويؤمنون إيمانا عميقا بسلطة المسؤولين بالحكومة في استخدام العقل في السيطرة على الأنظمة المعقدة وإعادة تنظيمها. وسترى المجادلين من اليمين واليسار يمارسون السياسة الأيديولوجية والمجردة بصورة كبيرة على نمط اليعاقبة.

ويعد أبناء حركة التنوير البريطانية في حالة تراجع. ومع ذلك، هناك الحقيقة المستعصية للطبيعة البشرية. كان الاسكوتلنديون على صواب، وكان الفرنسيون على خطأ. ومن هذه الحقيقة ينمو أحد أنماط التغيير، وهو نمط يؤكد على الاعتدال والتدرج والتوازن.

* خدمة «نيويورك تايمز».