روسيا وإيران.. 1000 عام من السياسة

TT

لعل أبرز ما حدث لإيران خلال الأسبوع الماضي هو اعتلال علاقتها بروسيا، إذ تسببت تعليقات الرئيس أحمدي نجاد بحق الرئيس ميدفيدف برد روسي قوي فاجأ الإيرانيين، بل يمكن اعتبار ما حدث كارثة بالنسبة لسياسة إيران الخارجية، وانتكاسة لموقعيها الإقليمي والدولي ما لم يتم تدارك الأزمة. لقد ظلت إيران منذ حرب الخليج الثانية تحاول بشكل كبير الاحتفاظ بعلاقات ودية مع روسيا، بل وتفضل العقود التجارية معها من أجل ضمان الفيتو الروسي في مجلس الأمن، بالإضافة إلى تأمين مصدر ثابت لتسّلحها، لكن هذه العلاقة باتت تتعرض لتراجع كبير تحت حكم المحافظين الجدد في طهران.

التوتر الذي طرأ على العلاقات الإيرانية - الروسية ليس جديدا - أو عابرا أيضا -، فلأكثر من عامين تعرضت تلك العلاقات إلى البرود الشديد لعدة أسباب، منها التأخر الروسي في تزويد إيران بصواريخ S300، وكذلك بسبب تأخير تشغيل محطة بوشهر، لكن المراقبين يشيرون إلى وجود أزمة ثقة بين الطرفين، وأن الروس باتوا منزعجين من سياسات النظام السياسي القائم في إيران، وبالتحديد من الطريقة التي تم التعامل بها مع روسيا من قبل نظام الرئيس نجاد. في أكثر من مناسبة وجهت إيران انتقادات حادة للطرف الروسي، ولكن ما أزعج الروس - بحسب بعض المصادر - هو أن النظام الإيراني بات يلوح للروس بالورقة الصينية كنوع من الضغط حينما تصل المفاوضات إلى طريق مسدود.

في أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي طالبت إيران من روسيا تسليمها صواريخ S300 بحسب الاتفاق الموقع بينهما في 2005، وحينما أُخطرت إيران بأن روسيا لا تنوي تحديد موعد للتسليم ما لم ترد إيران على المقترح الروسي - الفرنسي للتخصيب، استنكرت إيران بشدة الموقف الروسي ونوهت عبر تصريحات عديدة بأنها تدرس إمكانية الاستعاضة عن الصفقة الروسية بأخرى صينية «مقلدة» يطلق عليها صواريخ HQ - 9. وقد غضب الجانب الروسي لسببين: أولهما أن إيران تجرأت على مناورة روسيا بهذه الطريقة مع منافستها التجارية الصين. وثانيهما، أن ذلك النظام الصاروخي بالتحديد هو واحد من الأسلحة التي تتهم روسيا الصين بسرقة ملكيتها الابتكارية عبر تقليدها دون رخصة.

تنامي العلاقات الإيرانية - الصينية ليس جديدا هو الآخر، فالبلدان يعملان على تعزيز التبادل التجاري والعسكري بينهما بشكل كبير، لا سيما منذ أواخر التسعينات. اليوم، الصين هي أكبر شريك تجاري لإيران بتبادل تجاري يتجاوز 36 مليار دولار سنويا مقارنة بـ4 مليارات هي نصيب روسيا التجاري. أيضا، إيران هي ثاني أكبر مصدر للنفط إلى الصين (بواقع 15% من الاستهلاك الصيني)، كما أن الصين هي أكبر مورد للغازولين (وقود المحركات) إلى إيران. ليس هذا فحسب، بل إنه في الوقت الذي تراجعت فيه صادرات البترول الإيرانية من 4.2 إلى 3.8 مليون برميل يوميا زادت نسبة التجارة بينهما بمقدار 34%. كما يشعر الروس بخيبة أمل لأن إيران التي تعهدت بمساندة الجهود الروسية لإنشاء كارتيل عالمي للغاز تراجعت أمام ضغط العقود الصينية.

هذه الأرقام ربما تدلل على متانة العلاقات الإيرانية - الصينية ولكن على الرغم من ذلك وافقت الصين على مقترح المشروع الأميركي لجولة عقوبات رابعة على طهران. فلماذا إذن سارع الرئيس نجاد إلى توبيخ روسيا على انصياعها لضغوط أعداء إيران بينما سكت عن الصين؟

الإجابة المتوافرة بين أيدينا تشير إلى أن الموقف الصيني وإن بدا مماثلا للموقف الروسي إلا أن الصين - وليست روسيا - كانت الطرف الأكثر تعطيلا لمشروع العقوبات، إذ تشير بعض التسريبات الصحافية إلى أن المسؤولين الروس أبدوا انزعاجا من تصرفات الساسة الإيرانيين بين نوفمبر (تشرين الثاني) ويناير (كانون الثاني) الماضيين، بحيث لم يعد بوسعهم التعاطي مع نظام فقد براغماتيته المعتادة وبات أكثر شططا وتعسفا في التصرف. وبحسب البيان الأخير الذي أصدره كبير مستشاري الكرملين سيرجي بريخودكو فإنه «لم يتمكن أحد على الإطلاق من المحافظة على سلطته بالديماغوجية السياسية. وأنا مقتنع بأن تاريخ إيران على مدى 1000 سنة دليل على ذلك».

برأيي، أن إيران على وشك - إذا لم تتدارك الموقف - أن تفقد واحدة من أهم علاقاتها الاستراتيجية والتي مكنت النظام من تأمين مناوراته السياسية في المنعطفات الصعبة، ولعل رموز النظام اليوم ممن بقوا في الحكم زمن الثورة يدركون كم كان الأمر مكلفا لإيران في تحدي قوتين عظميين في وقت واحد. لقد عادى الإمام الخميني الاتحاد السوفياتي من منطلق أيديولوجي ديني، بحيث كانت كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي يتعاونان مع العراق عسكريا طيلة الحرب العراقية - الإيرانية مما دفع بها إلى شراء السلاح من عدوتها إسرائيل. ولذلك عندما أصبح رفسنجاني رئيسا كانت أولى مهامه هي إصلاح العلاقات مع روسيا، ويُروى أن رفسنجاني عارض مشروع انتشار استخباراتي في الجمهوريات ذات الغالبية المسلمة، المستقلة حينها، تقدم به الحرس الثوري الإيراني خوفا من أن يؤثر ذلك على العلاقات الإيرانية - الروسية. لقد استفادت إيران كثيرا من التقارب مع روسيا، ويمكن القول إن اتجاه السياسة الخارجية الإيرانية نحو الاعتدال النسبي نهاية التسعينات مكّن إيران من استعادة دورها في جنوب شرقي آسيا، ووفر لها حليفا قويا في وجه عدوين شرسين، هما طالبان في أفغانستان ونظام صدام حسين بالعراق.

اليوم، يغامر المحافظون الجدد في إيران بالعلاقات مع روسيا لأنهم يرونها صغيرة وغير ملبية لتطلعاتهم الأيديولوجية المبالغ بها، ولذلك باتوا يغازلون الصين على حساب روسيا، وهم قد نسوا - أو تناسوا - أن روسيا ما تزال دولة عظمى لها مصالح كبرى ليس من ضمنها خلق دولة نووية «ديماغوجية» و«متطرفة سياسيا» - حسب التعبير الروسي - في الجنوب الأوراسي المسلم. ربما من المبكر الحكم على مستقبل العلاقات بين إيران وروسيا من خلال هذه الأزمة، ولكن من المتوقع أن لا يدع مكتب المرشد وقادة الحرس الثوري الرئيس نجاد وحلفاءه من المحافظين الجدد يفرطون بما هو كبير وغال بالنسبة لإيران، فألف عام من السياسة بين البلدين تثبت أن عداوة البعيد ليست كعداوة القريب والجار.