عالم آخر جديد فعلا؟!

TT

هذا موضوع لا يتوقف أبدا عن الظهور والإلحاح حيث يبدو العالم الذي نعيش فيه وكأن في ظاهره ما نعرفه عنه ونشاهده كل يوم، ولكن في باطنه عالم آخر يتحرك ويتغير كالجنين الذي لا نعلم متى يولد، أو كالبركان الذي لا يعرف أحد متى ينفجر بالحمم واللهب. والمناسبة هي أن العدد الأخير من مجلة الـ«تايم» الأميركية حمل عنوانا هو «فيس بوك Facebook»، وجاء العنوان الفرعي قائلا: «.. وكيف يعيد تعريف الخصوصية، وبعد ما يقرب من 500 مليون مستخدم، يصل بعضنا ببعض بطرق جديدة، و(مخيفة)». المسألة هكذا أن شعبا كاملا يتكون من وراء الستار، يتصل بعضه ببعض وفقا لمعدلات كثيفة، وبأشكال شتى كانت في يوم من الأيام مقتصرة على الرسائل الإلكترونية، ثم جاءت المدونات، ومن بعدها جاء «فيس بوك» وقبل أن تنفض دهشتنا من المعلومات حوله إذا بنفس المجلة تقول لنا إن إحدى وسائل الاتصال الأخرى «يوتيوب YouTube» يطل عليها كل يوم نحو مليارين من البشر، أي أقل قليلا من ثلث البشرية.

فما هي الحكاية بالضبط؟ وهل هي لا تزيد عن كونها مجرد ألعاب تكنولوجية حديثة، أم أنها أدوات لتغيير البشرية بأشكال ثقافية واجتماعية واقتصادية وبالطبع سياسية؟

الرصد يقول لنا إنه قد تصاعدت أدوار التقنيات الحديثة، مثل «فيس بوك» و«تويتر» و«يوتيوب» في السنوات الأخيرة، في مجالات عدة ونواحٍ مختلفة، في حياة البشر وفي مختلف أنحاء المعمورة، لدرجة أنها خلقت عالما بديلا أو افتراضيا موازيا بدرجة ما للعالم الواقعي، أو ما يطلق عليه الحقيقة التخيلية (virtual reality).

وإذا كان «الفيس بوك» سيسجل خلال الأسابيع القادمة المواطن رقم 500 مليون، فهو بذلك يكاد يكون افتراضيا أكبر ثالث دولة على مستوى العالم من حيث عدد السكان، حيث سيفوق عدد المستخدمين الناشطين فيه عدد سكان الولايات المتحدة بمقدار الثلثين. ولكن الأهمية هنا لا تكمن في عدد المستخدمين بقدر تأثيرات النموذج على هذا العدد، حيث يحقق عددا من الخصائص التي تجعل منه نموذجا فريدا للمشاريع الاستثمارية في عصر المعلومات.

وأولى هذه الخصائص يرتكز على فكرة «التشبيك» (Networking)، سواء تشبيك الأشخاص أو المواقع، فخاصية «Facebook Connect» تسمح للمستخدم بكتابة أي تعليق على أي موقع دون الحاجة للتسجيل فيه، حيث تنتقل المعلومات الخاصة بالمستخدم تلقائيا إلى ذلك الموقع. والثانية، مرتبطة بسياسة الحفاظ على الطابع العالمي للموقع، والمحلي للمستخدم، وذلك من خلال السياسات الخاصة بتشجيع مستخدمي «الفيس بوك» على التطوع في ترجمة صفحاته للغاتهم المحلية، وعدد اللغات المستهدفة حتى الآن يبلغ 70 لغة محلية. والثالثة، هي أن رأسمال هذه الشركة هو معلومات مستخدمي موقع «الفيس بوك»، واستثمارهم العاطفي فيه، فكلما زاد حجم المعلومات التي يتشارك بها الأعضاء، زادت أرباحها. ويشير تقرير مجلة الـ«تايم» إلى أنه شهريا يتشارك مستخدمو «الفيس بوك» في أكثر من 25 مليار معلومة، ويضيفون إلى الموقع أسبوعيا مليار صورة جديدة، وقد بلغ إجمالي عدد الصور الموجودة على الموقع 48 مليار صورة غير مكررة.

وتستثمر الشركة هذه المعلومات بعدة طرق، فمن ناحية تتشارك هذه المعلومات مع شركات الإعلان والتسويق، التي تقوم باستهداف المستخدمين في المجالات التي يفضلونها، والتي تحددها باستخدام المعلومات والتفضيلات التي يسجلونها باستخدام «Like button» الموجود في صفحات «الفيس بوك». ومن ناحية أخرى، يوظف «الفيس بوك» نموذج دعاية يقوم على الترويج العاطفي للمنتجات، فتوفير معلومة بأن مستخدما ما يستهلك منتجا معينا، قد يشجع أصدقاءه على «الفيس بوك» على استهلاك ذات المنتج.

ولا يقتصر تأثير النموذج الذي يقدمه «الفيس بوك» على مجال الأعمال، بل تعدى ذلك إلى التأثير على الأنماط الثقافية السائدة في العالم، فكثافة استخدام الموقع تعكس تغيرا كبيرا في الثقافة باتجاه مزيد من الانفتاح الاجتماعي لدى فئات عمرية معينة. وبحسب تقرير مجلة الـ«تايم»، بات ما نسبته 28% من مستخدمي «الفيس بوك» الذين تتخطى أعمارهم 34 عاما، أكثر تعودا على الانفتاح. إن استمرار هذا التأثير لنموذج «الفيس بوك»، على نحو يضمن النجاح في تحقيق رسالة الشركة، المتمثلة في «جعل العالم أكثر انفتاحا واتصالا»، كما صرح رئيس مجلس إدارتها مارك زوكربرغ، ومؤسس الشركة، يتطلب أن تتوصل إلى صيغة مُرضية لمستخدمي الموقع في ما يتعلق بسياسات الخصوصية، التي تؤثر على كيفية استخدام الموقع للمعلومات والأخبار والصور التي يتشاركون فيها.

لم يكن يعلم زوكربرغ، الطالب بجامعة هارفارد، أن تصميمه لموقعه الشهير «الفيس بوك» في عام 2004 سوف ينضم إليه أكثر من مليون مشترك شهريا، إذ كان الهدف منه إنشاء شبكة اجتماعية لزملائه في الجامعة حيث يتبادلون من خلاله أخبارهم وصورهم وآراءهم، وانتهى به الأمر إلى إنشاء شبكة عالمية بالفعل.

وقد أكد تقرير يحمل عنوان «التوزيع الجغرافي لموقع (الفيس بوك) في الشرق الأوسط وأفريقيا»، أطلقته شركة «سبوت أون» للعلاقات العامة مؤخرا (مايو 2010)، أن عدد المشتركين في «الفيس بوك» في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هم أكثر من عدد المشتركين في الصحف التي يتم تداولها في الشرق الأوسط، حيث بيّن التقرير أن عدد مشتركي «الفيس بوك» يزيد عن 15 مليون مشتركا في المنطقة، وبالمقابل يبلغ عدد مشتركي الصحف العربية والإنجليزية والفرنسية ما يقل عن 14 مليون مشترك.

ومن الجدير بالذكر أنه ينتمي إلى خمس دول في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا نحو 70% من مستخدمي «الفيس بوك»، وهذه الدول هي مصر والمغرب وتونس والسعودية والإمارات العربية المتحدة. وقد أظهر التقرير أن نحو 50% من مستخدمي «الفيس بوك» في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يختارون اللغة الإنجليزية كلغتهم الرئيسية، أما 25% من الأشخاص فيختارون اللغة الفرنسية، و23% فقط من المستخدمين يختارون اللغة العربية. ويصل عدد المشتركين في مصر إلى 3.5 مليون، ويبلغ عدد مشتركي شمال أفريقيا 7.7 مليون، في حين بلغ عدد مستخدمي «الفيس بوك» في دول الخليج 5 ملايين.

واللافت للنظر أن معظم النمو في استخدام «الفيس بوك» في منطقة الشرق الأوسط كان نتاج المستخدمين الذين تقل أعمارهم عن 25 عاما، كما أن ما يزيد على 48% من المشتركين في «الفيس بوك» في المملكة العربية السعودية هم تحت سن 25 عاما مع انقسام متساوٍ بين مستخدمي العربية والإنجليزية، وتبلغ نسبة الذكور منهم 67%. أما بالنسبة إلى «تويتر» (يعتبره البعض حالة وسط بين برامج البريد الإلكتروني «الإيميل» والمدونات)، فهو أحد المواقع الإلكترونية التي تقدم خدمات مجانية للتواصل الاجتماعي والتدوين المصغر، الذي يسمح للمستخدمين بإرسال أهم اللحظات في حياتهم في شكل تدوينات نصية لا تزيد على 140 حرفا. ومن الجدير بالذكر أن موقع «تويتر» لا يعلن عن عدد مستخدميه بدقة، وإن كانت هناك تقديرات تشير إلى أن عدد المشتركين في الشبكة يزيد على 100 مليون مستخدم. ويذكر أن هذه الوسيلة الأخيرة استخدمت من قبيل المعارضة السياسية في إيران، أما «الفيس بوك» فقد كان وراء بزوغ ظاهرة البرادعي في مصر.

والحقيقة أنه لم يعد معلوما كيف ستؤثر كل هذه الأدوات في حياة البشر وهوياتهم وخصوصياتهم، وحتى معنى الحقوق والواجبات والانتماء إلى وطن أو جماعة. وحتى في الدول الغربية فإن هناك اتجاها متخوفا من فقدان شخصيات حقيقية لصالح عوالم أخرى وهمية. أما بالنسبة لنا فإن المسألة تبدو أكثر صعوبة، حيث لا يمكن تخيل تأثير هذه الأدوات في مجتمعات تقليدية، ولا الكيفية الجديدة التي تحول التقدم إلى اختراق، والعلوم والتكنولوجيا إلى أسلحة جبارة باترة، والخطورة كامنة في أن الأجيال القديمة لا تعرف الكثير عما يجري لأن التغيير هذه المرة يأتي من أسفل، وبين الأجيال الجديدة والأصغر سنا، أما من هم في السلطة أو في النخب الحاكمة فإنهم لا يدركون عمق ما يجري.