معشوقتي الأولى.. هي الآثار الفرعونية!

TT

اعتاد الناس على قيامنا بالكشف عن كثير من الاكتشافات الأثرية التي ترجع للعصر الفرعوني من مقابر وتماثيل ولوحات رائعة الجمال، وكذلك سراديب أسفل الأرض تقود إلى خبايا بها مومياوات أو مقابر غنية بالمقتنيات الجنائزية التي اعتاد المصري القديم على اقتنائها والتزود بها لرحلته في عالم الأبدية..

ويحتل الإعلان عن هذه الاكتشافات الصفحات الأولى من المجلات والصحف العالمية، وتتسابق محطات التلفزيون على تغطية أخبار الاكتشافات.. والإعلان عنها في الميديا المصرية والعربية والأجنبية.. في الوقت الذي لا نسمع فيه سوى أقل القليل عن أخبار اكتشافات أثرية قبطية أو إسلامية، وحين أحل ضيفا على برنامج إذاعي أو تلفزيوني أجد محدثي يبادرني بالسؤال: لماذا تحب الآثار الفرعونية أكثر من حبك للآثار الإسلامية والقبطية واليهودية؟!

وأحيانا ما يهاجمني محدثي بأنني أهمل هذه الآثار على حساب الآثار الفرعونية..!

والحقيقة أن هذا الكلام غير حقيقي بالمرة ولا يعكس أي واقع، وعلى كل متشكك في ذلك أن يتجول في شارع المعز، وشوارع القاهرة التاريخية وبواباتها، ومدينة رشيد، ومساجد دمياط العتيقة، ومسجد أبو الحجاج بمدينة الأقصر، وأديرة أبو مينا وسانت كاترين، والكنيسة المعلقة، والمتحف القبطي، والمتحف الإسلامي الذي سيفتتح خلال أيام، ليرى بعينيه ويلمس واقعا بأننا لا نولي اهتماما خاصا بأثر دون أثر آخر، ولا نحكم على الآثار بناء على هويتها الدينية..

البعض قد لا يصدق أننا أنفقنا على ترميم الآثار والمتاحف الإسلامية أكثر بكثير مما تم إنفاقه على ترميم الآثار الفرعونية، على الرغم من أن الأخيرة أقدم بكثير.. لكن ما فعله زلزال عام 1992م جعلنا نقود حملة كبيرة لإنقاذ الآثار الإسلامية خاصة في مدينة القاهرة بعد أكثر من عشر سنوات ظلت فيها هذه الآثار مصلوبة (تستند على صلبات حديدية ودعامات).. من دون أن يستطيع أي مسؤول أن يبدأ في تحمل مسؤولية خلع هذه الصلبات وترميم الآثار لكي تعود إلى سابق عهدها..

هناك حقيقة أخرى قد تكون خافية على كثيرين.. وهي أنني درست الآثار الفرعونية وتخصصت في عصر الأهرامات، وأحس دائما بأنني أعيش في زمن «خوفو» و«خفرع» و«منكاورع».. أشعر بهم يتنفسون من حولي ويقودون بلادهم إلى أسمى مراتب الحضارة بالبناء والتعمير.. أكاد أرى «خوفو» وهو يشرف بنفسه على مخطط مجموعته الهرمية، ويناقش مع مهندسه المعماري وابن عمه «حم إيو نو» بعض تفاصيل البناء، وكيف أشار «خوفو» بأن يبني له حجرة دفن في أعلى جزء داخل هرمه لكي يشرق مثل الشمس كل صباح ويرى الأرض التي حكمها وهي تزرع وتحصد وتعيش في آمان.

وعندما أتحدث عن مصر الفرعونية، فإنني أتحدث عن حبي الأول والأخير، ولا يعني هذا أنني لا أحب إلا ما هو فرعوني. فأنا أقدر روعة وجمال الفن الإسلامي وعبقرية الفنان المسلم الذي طوع أدواته وخلق نوعا جديدا من الفن استغنى به عن الفن المجسم الذي عارضته قيمه الدينية.. وأعتقد أنني لو كنت متخصصا في الآثار الإسلامية لكنت تحدثت عنها من قلبي مثلما أفعل مع الآثار الفرعونية، وفي مصر مثل شعبي يقول: «إدِّي العيش لخبازه». أي أعط الصنعة لصانعها.. وهكذا يجب أن يكون الحال وأن يضطلع بالأمر من هو متخصص فيه.. أحب الآثار الإسلامية والقبطية واليهودية، لكن معشوقتي الأولى.. هي الآثار الفرعونية..!

www.zahihawass.com