«إنساني يارديم فاكفي»

TT

كان صدام حسين يوزع الحروب في اليمين وفي اليسار، داخل الحدود وعبر الحدود، ضد الأقوياء وضد الضعفاء. وكان في العراق أكثر من ثلاثين ألف أجنبي، كان في إمكانه استخدامهم كدروع. وربما لو فعل لتردد الحلفاء طويلا في مهاجمته. لكنه ترك الجميع يخرجون، محافظا بذلك على تقاليد عربية قديمة.

لم يلتفت الإسرائيليون إلى عرف أو تقليد أو قاعدة، وهم ينهالون بالرصاص والعصي على مجموعة مسالمة من الناس تحمل مساعدات طبية وغذائية إلى قطاع محاصر. داست الجزم العسكرية على كل الأعراف والتقاليد والعلاقات، وهي تهاجم سفينة صاحبتها مؤسسة «إنساني يارديم فاكفي» التي يدل اسمها على هويتها: «مؤسسة الغوث الإنسانية».

وفي اليوم التالي حدث ما هو أسوأ من المجزرة. ففيما وقف العالم أجمع يستنكر الجريمة المعلنة، وقف رئيس وزراء إسرائيل ووزير خارجيتها ووزير دفاعها، يبررون ويدافعون ويهددون بتكرار الفظاعة حيال الأوروبيين القادمين في مهمة إنسانية معلنة. قدمت إسرائيل عرضا خاصا للإعلام الدولي عن طريقتها في معاملة الناس، والرد على النداءات الإنسانية. حتى غلاة مؤيديها، في الإعلام الأميركي، بدوا مرتبكين هذه المرة، ومضطرين إلى الاستنكار. والدول التي ظلت عقودا على الحياد، مثل أستراليا، خرجت عن حيادها، لأن الحياد أصبح عارا مثل المجزرة نفسها.

كانت مأساة محمد الدرة، من الناحية الإنسانية، أكثر فظاعة. طفل يصاب بين يدي والده، وبدل أن يرق القتلة لأنينه، يستكملون الجريمة. لكن تلك الجريمة التي لا يمكن أن تغيب عن الذاكرة الإنسانية، لم تأخذ حجم المجزرة الجماعية على السفينة «مافي مرمرة»، لأن معظم الضحايا من الأجانب، خصوصا الأوروبيين.

لقد «أُحرج» مسؤولو الدول التي لها رعايا في «أسطول غزة» فلم يستطع، حتى الراغبون منهم، الاكتفاء بالجمل والتعابير التقليدية. وخجلت الولايات المتحدة من استخدام الفيتو في مجلس الأمن كما فعلت كل مرة من قبل.

ويرجى ألا يقوم من يفرق هذا الإجماع العالمي بعمل غير مفيد. هذه فرصة مهمة لكي ندع الغرب يتأمل جيدا في السلوك الإسرائيلي الذي ما برح يدعمه، مرة في السر ومرة في العلن. لا بد أن تمر فترة طويلة من التأمل في النهج الذي تتبعه إسرائيل في معاملة الواقعين تحت احتلالها، أو حتى الغرباء الذين زين لهم أن يمتحنوا مدى نواياها «السلمية»، فلم تتردد لحظة، لا قبل ولا بعد ولا بين بين.