مقالب اللغة

TT

نشأ النحو العربي في العهد الجاهلي عندما وجد عرب البادية فائضا جزيلا من الوقت في زمن السلم لا يدرون كيف يقضونه. لم تكن لديهم أي أداة لتوظيفه غير اللسان. فأخذوا يستمتعون بالتفنن في استعمال الكلمات واللغة. هكذا خلفوا لنا هذا التراث الواسع من النحو العربي. ولكن بقيام الحضارة العباسية توفرت سبل جديدة أكثر متعة وفائدة لاستثمار الوقت. وجدوا في الحياة أمورا أخطر وأجدى من الاهتمام برفع الفاعل ونصب المفعول به. أخذوا يتخلون عن قواعد النحو وينظرون إليها كمسخرة ونكتة. فنشأ ذلك الفصل الجديد في الأدب العربي: النكتة النحوية. كتب الأدب مليئة بها.

سمع نحوي رجلا يرفع الاسم التالي لحرف الجر «مِن»، فصاح به: «ويلك! أترفع المجرور بـ(مِن)، و(مِن) تجر حتى الجبال؟!». مرت أيام وسقط النحوي في النهر وراح يستنجد الناس لإنقاذه. وقف نفس ذلك الرجل على حافة الشاطئ وراح يناديه فيقول: «مِننننن... مِننننن... مِنننن... خَلِّ (مِن) تجرّك!».

ووقف نحوي آخر على بقال يبيع الباذنجان، فقال له: «كيف تبيعه؟»، قال: «عشرين بدانق»، قال: «وما عليك أن تقول: عشرون بدانق؟»، فظن البقال أنه يستزيده، فقال: «ثلاثين بدانق»، فقال النحوي: «وما يمنعك أن تقول: ثلاثون بدانق؟»، وما زالا على ذلك حتى بلغ البائع سبعين، فقال له النحوي: «وما عليك أن تقول سبعون؟»، فقال البقال: «أراك تدور على الثمانون، وذلك لا يكون»!

ومثل أمام القاضي أحد النحاة، أو النحويون، عفوا النحويين، يخاصم رجلا عن دََيْن عليه، فقال: «لي عليه مائتان وخمسون درهما». فسأل القاضي الخصم: «ما تقول عن ذلك؟»، فقال: «أصلح الله القاضي، إن له ثلاثمائة درهم، ولكنه ترك الخمسين ليعلم القاضي أنه نحوي»!

بدلا من استعمال اللغة كوسيلة لنقل المعلومات وصياغة الفكر، تحولت بنحوها وقواعدها إلى صناعة وضرب من الفن والزخرفة اللغوية في صياغة الكلم. سقط نحوي آخر في بئر وراح يصرخ ويستغيث. جاءه صاحب الأرض لينتشله، فقال له النحوي وهو على ما كان عليه من خطب وخطر: «هاتني حبلا دقيقا وشدني شدا وثيقا واسحبني سحبا رقيقا». فرمى الرجل بالحبل وانصرف قائلا: «ثكلتني أمي إن مددت يدي إليك!»

وكم يذكرني ذلك بما صادفته أثناء الكثير من المؤتمرات والقوم يتناقشون في الصياغات اللغوية وانتقاء المفردات ومراعاة القواعد النحوية، والبلاد تتمزق والدماء تتدفق وأوطاننا تتشقق وأمة عن التطور تتشرنق (!).

وهو كأمر ذلك النحوي الشهير أبو علقمة (ولا أشك في أنه سيرتعد في قبره إن لم أصحح كلامي وأقول «أبي علقمة»). كان يهوى جارية، فقال لها: «يا خريدة، قد كنت أخالك عروبا فإذا أنت نوار. ما لي أمقك وأنت تشنئينني؟».

فقالت: «يا رقيع! ما رأيت أحدا يحب أحدا فيشتمه!».

ولكل هذا الكلام بقية وفكرة.