هل يدفع نتنياهو ثمن الهجوم على «أسطول الحرية»؟

TT

إذا كانت إسرائيل مصرة على أن تحفر أعمق وأعمق في الحفرة التي تغرق فيها، فما المانع!

بعد الغارة الإسرائيلية على سفن المساعدات الإنسانية، سارت في العالم العربي والإسلامي مظاهرات تحمل العلم التركي. وقال لي أحد اللبنانيين: يجب أن نشكر تركيا، فلولا سقوط ضحايا أتراك لما اهتم العالم بالضحايا العرب. بعد الحادثة قال رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان إن تركيا لن تقف مكتوفة الأيدي إزاء ما حصل. أما وزير خارجيته أحمد داود أوغلو فاعتبر الهجوم الإسرائيلي انتهاكا فاضحا للقانون الدولي. والملاحظ أن تركيا حشدت إعلامها حول هذه القضية. والسؤال الآن: كيف ستتحكم أنقرة بهذا التطور لتبدو أنها المسيطرة على الوضع داخليا، خصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار الانقسام السياسي الداخلي، ومعاناة الأكراد، والمناوشات العسكرية المستمرة (سقوط 6 جنود أتراك بصاروخ أطلق صباح الاثنين على قاعدة في الأسكندرون)، تبدو هذه العملية محاطة بالأخطار.

قول أردوغان لا يبدو أنه يهدف إلى عمل عسكري، إلا إذا قرر نشر أسطوله البحري.

إذن، على من يريد الأتراك أن يؤثروا؟ من المستبعد أن يحصلوا من إسرائيل على أي شيء، لا سيما رفع الحصار عن غزة. أما العرب وإيران فماذا سيحققون لأنقرة. يبقى الأميركيون. لكن ماذا يمكن لأنقرة أن تعرضه على واشنطن كي تقلب الوضع إلى مصلحتها؟

بعد العملية الإسرائيلية، صدرت دعوات لانتفاضة تعم غزة والضفة الغربية، كما طالب بعض زعماء «حماس» بوقف المفاوضات غير المباشرة بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، ولم يستعجلوا المصالحة الفلسطينية. من سيستفيد من ردود الفعل هذه؟ عملية السلام العربي - الإسرائيلي أبعد من أن تحركها أو تقرر مصيرها مظاهرات احتجاج. الدول الغربية ومجلس الأمن طالبوا بإجراء تحقيق حول العملية، لكن، دولة واحدة ستستجيب لتعزيز مشاعر الصدمة التي اجتاحت «حماس» وتدفعها إلى المزيد من التصلب وربما إلى عمليات عسكرية، إنها إيران. يوم الثلاثاء اتهم محمود أحمدي نجاد إسرائيل بالتحضير للهجوم على غزة.

يقول لي صحافي تركي، إن صدمة ما حدث ستفعل فعلها في وزير الخارجية أحمد داود أوغلو، لأنه يقف وراء السياسة الخارجية الجديدة التي تعتمدها تركيا، إذ بعد سقوط جدار برلين صار يرى أن تركيا يجب ألا تكون ملحقة بالغرب، بل دولة محورية. شرح هذه الفكرة في كتابه: «العمق الاستراتيجي» عام 2001. وتقول إن تركيا يجب أن تستغل وضعها الجغرافي وتاريخها لمصلحة سياستها الخارجية.

أفكاره لاقت تجاوبا لدى «حزب العدالة والتنمية»، الذي مع وصوله إلى الحكم عام 2002 صار داود أوغلو المستشار السياسي لأردوغان وعام 2009 عُين وزيرا للخارجية.

داود أوغلو دفع تركيا لاستعمال «العمق الاستراتيجي» كي تصبح لاعبا دوليا، هو يرى أن تركيا تقع في آسيا وأوروبا، تحد البلقان والقوقاز والشرق الأوسط، بمعنى أنها عبر البحر الأسود، والمتوسط وبحر إيجه تجاور 25 دولة. وكل ما يدخل أو يخرج من البحر الأسود يمر عبر المضائق التركية. مياه دجلة والفرات تنبع من الأناضول، وبالتالي فإنها تتحكم بمياه الشفة في سورية والعراق.

اللغة والثقافة التركية منتشرتان من جنوب شرقي أوروبا حتى شمال غربي الصين. ثم إن اسطنبول كانت مقر الخلافة العثمانية التي حكمت من القدس حتى بغداد لقرون.

تركيا تريد استقرار العراق بعد الانسحاب الأميركي، ثم إنها رئيسية في مشروع خط الغاز الطبيعي «نابوكو» لتحرير أوروبا من الاعتماد على الغاز الروسي. وقواتها في أفغانستان لتدريب الجيش الأفغاني، وهي عضو بمجموعة العشرين الصناعية.

في ظل كل هذه الصحوة، أقدمت تركيا على القيام بدور الوسيط، ما بين إسرائيل وسورية، وأفشلتها حرب إسرائيل على غزة، ومن ثم رفض بنيامين نتنياهو قبول وساطتها. أرادت التوسط بين إيران والولايات المتحدة، واحتاجت إلى مساعدة البرازيل للتوصل إلى صفقة مع إيران واستُقبلت بفتور كبير من الغرب والعالم. اكتفت حتى الآن بتوثيق علاقاتها أكثر وأكثر مع سورية، اتفقتا على إلغاء تأشيرة السفر بين البلدين، على أمل أن تتوصل إلى الاتفاق نفسه مع روسيا هذا العام. ونشرت صواريخها على الحدود مع سورية لدرء أي هجوم إسرائيلي محتمل على إيران. كل هذا انطلاقا من «عقيدة» داود أوغلو: «لا نريد أي مشاكل مع جيراننا».

تبقى أوروبا التي يعتبر داود أوغلو وجود تركيا داخلها بشكل شرعي، الحلقة الأساسية لسياسة أنقرة الخارجية. تركيا تريد الانضمام بحلول عام 2014. إذا نجحت، تصبح إيران على حدود الاتحاد الأوروبي، ويصبح الاتحاد مالكا لموارد عسكرية ضخمة، ويرى زيادة ستة أضعاف في سكانه المسلمين. إذا فشلت تركيا في الانضمام سيصعب على الاتحاد الأوروبي إقناع العالم بأن الخوف من الإسلام ليس السبب. المحاولات متوقفة.

أيضا، ما يهدد مصداقية داود أوغلو تعثر اتفاقية السلام مع أرمينيا، بسبب رفض أذربيجان بقاء سيطرة أرمينيا على إقليم «ناغورنو كاراباخ».

هدف التمدد بالسياسة الخارجية التركية إلى كل الاتجاهات، زيادة التجارة وجذب الاستثمار الأجنبي إلى الاقتصاد التركي، وأيضا تجاوز الحقوق الشرعية للأكراد ورفض الاعتراف بالمذبحة الأرمنية.

يقول لي الصحافي التركي، إنه منذ عام 1923 وسياسة تركيا الخارجية قائمة على إبقاء تركيا موحدة. كل تركي تعلم في المدرسة أن البحر يحد تركيا من ثلاثة حدود، وأن الحد الرابع هو العدو. أما الآن وفي ظل «عقيدة» داود أوغلو: البحر يحد تركيا من ثلاثة حدود، والأسواق هي الحد الرابع.

لكن، هناك من يصف سياسة داود أوغلو الخارجية بـ«العثمانية الجديدة». وقد عبّر أحد نواب «حزب العدالة والتنمية» عن اعتزازه «لرؤية الجدران العثمانية تضم القدس العتيقة». ويبدو أن الحنين إلى الزمن العثماني يداعب مخيلة بعض القائمين على السياسة الخارجية التركية.

داود أوغلو نفسه قال مرة: «كلما وقعت أزمة في البلقان وسقط ضحايا بسبب هذه الأزمات من البوسنيين والألبان والأتراك في بلغاريا، يتطلعون جميعهم إلى اسطنبول. إننا ندفع فاتورة تاريخنا». لكن داود أوغلو يرفض إلصاق «العثمانية الجديدة» بسياسته، ويعتبر أن مناوئيه السياسيين يحاولون تلطيخ سياسته الخارجية كدلائل على الاستعمار العثماني القديم. وكما يقول لي الصحافي التركي، فإن قرار داود أوغلو الأخير بتجديد كل السفارات التركية في الخارج حسب النمط التركي الذي يعني العثماني، لا يساعد في رد التهمة عنه. ويقول النقاد أيضا إن داود أوغلو وحزب العدالة والتنمية «أسلموا» السياسة الخارجية التركية، ونظرة العالم إلى الحزب أنه حزب إسلامي، وهذا يؤثر على طريقة حكمه. ويقول محدثي: «إن تهمة (الأسلمة) هدفها تخويف الغرب إثارة العلمانيين ليس أكثر». ثم إن الكثير من الليبراليين والتقدميين في تركيا يتجاهلون هذه التهمة، بانتظار ما ستصل إليه السياسة الخارجية التركية، التي هي حتى الآن خطوات واسعة وكثيرة إنما من دون نتائج ملموسة أو ناجحة.

قد يكون خطأ داود أوغلو في سياسته الخارجية، اعتقاده بأن كل الدول ستحترم ما يدعيه، من أن أنقرة تعامل كل الأطراف باحترام متبادل، وعلى مبدأ المساواة، لأن هذا منعه من رؤية الاختلاف في توجهات تلك الدول.

وانطلاقا من تفكيره بمنطق سياسته الخارجية، ربما كان دعم تركيا لـ«أسطول الحرية» ظنا منها بأن إسرائيل التي تربطها معها علاقات دبلوماسية وعسكرية ستكتفي بالتهديد وستسمح لـ«الأسطول» بالوصول إلى غزة، بسبب الوجود التركي.

يوم الاثنين الماضي، بعد الغارة، تحدثت نائبة من «حزب العدالة والتنمية» إلى إذاعة «بي بي سي»، وقالت: «لا مشكلة لدينا مع إسرائيل أو مع الشعب الإسرائيلي، إننا نرحب بالسياح الإسرائيليين في تركيا، مشكلتنا فقط مع الحكومة القائمة في تل أبيب».

هل إن تهديد أردوغان بأن تركيا لن تقف مكتوفة الأيدي، يعني أن لديه خطة لإسقاط حكومة نتنياهو؟ أم أن تركيا تفكر بأنه حان الوقت لتدير ظهرها للغرب؟ الأسابيع المقبلة قد تحمل أجوبة أو قد تحمل مفاجآت.